الأحد، أبريل 11، 2010

14 - لما ولادنا .... يربونا


عودة إلي الإسكندرية الجميلة والتي لاأشعر بالجمال إلا وأنا أشاهدها ، بل أنني أستشعر معاني الجمال عندما أسمع إسم الإسكندرية أثناء حديثي مع الأصدقاء أو إذا ذكر في برنامج إذاعي أو تلفزيوني

لا أتحدث هنا عن الجمال الذي نشاهده في لوحة فنية أو منظر طبيعي خلاب ، ولكنني أتحدث عن جمال المعاملات .. جمال القيم .. جمال الأخلاقيات ... أو في المجمل ..جمال الناس

أعلم تمام العلم أنكم تروني منحازا لمدينتي التي تربيت بها وهو ما لاأنكره ، بل وأؤكده لكم

فكل منا ينحاز بطبيعته البشرية إلي حيث نشأ وترعرع وتعلم مبادئ الحياة والمعاملة وإحترام الأخريين . ينحاز بطبيعته البشرية إلي الفترة التي كان يعيش فيها سنوات برائته وطفولته . ينحاز بطبيعته إلي الفترة التي لم يكن يحمل فيها الهموم لإن عائلته كانت كفيلة بحمل همه وكان كل همه وقتئذ أن يعيش حياته ويستمتع بها في ظل إحترامه للأخريين وإحترام الأخريين له.

كان أبي ولازال – أطال الله في عمره – مدرسة خاصة في تربية الأولاد لها مناهجها الخاصه بها وكان يقوم هو فيها بدور الناظر والمدير والمدرس والمحاسب. كانت له فلسفته في التربية والتي كنا ونحن أطفال نرفضها ونجدها سياسة تعسفية لأنه يجبرنا علي أن نكون رجالا ونحن لازلنا صغارا.

كان أبي مثل كل أباء عصره وهذا العصر أيضا يقوم بإعطائنا مصروفنا اليومي أثناء الدراسة والذي كنا نراه دائما لايكفي متطلباتنا تماما كما يراه أبنائنا الأن وإن كنا ندفع لهم مائة ضعف ماكنا نحصل عليه عندما كنا في نفس أعمارهم مع إحتساب فرق العملة و نسبة التضخم وزيادة الأسعار .. وما إلي غير ذلك من مفردات العولمة.

ولكن أبي كانت له سياسة مختلفة إذا مادخلنا في فصل الصيف والأجازات حيث كان المصروف الذي نأخذه يتم صرفه بالكامل أثناء ذهابنا إلي النادي أو إلي مقابلة أصدقائنا في السينما أو أثناء التمشية علي الكورنيش أو في محطة الرمل لإنه لم يكن متوفرا في هذا الوقت المولات المغطاة المكيفة. كان أبي يفرض علينا في إجازة الصيف أن نعمل معه في مصنعه إذا ما أردنا الحصول علي المصروف بحيث لانأخذ مصروفا ولكن نأخذ راتب أسبوعي كما الرجال.

ولأنني كنت مختلفا قليلا عن إخوتي الذين كان يسعدهم العمل مع أبي والتمتع بخصوصية أصحاب العمل ، فإنني وبعد تجربة العمل مع أبي لم أجد نفسي في هذا المجال أو المكان ولكن بطبيعة الأمر لم أكن أستطيع تغيير سياسة أبي. لذا فقد قررت أن أقبل متطلبات وإشتراطات الوضع الراهن وذلك بأن أعمل لكي أحصل علي الراتب الذي يكفي متطلباتي ولكن في مكان أخر بعيدا عن أبي.

ووافق أبي علي طلبي وإن كان قد حذرني من التعب الذي سألاقيه في العمل عند الغير ووضح لي في جلسة أبوية أنه يوافق علي عملي عند الغير ليس لإنني في إحتياج مادي ولكن لإنني في إحتياج تربوي .. وقبلت التحدي

وذهبت للعمل في مطعم شهير علي كورنيش الإسكندرية وأنا في سن العاشرة ... وكم كانت التجربة مشوقة ومثيرة ومؤثرة. بل أنها كانت تجربة مليئة بالمعاني التي أكافح الآن لأغرسها في أولادي.

لقد أرست هذه التجربة بداخلي في وقتها معاني لم أفهمها إلا الآن.

معاني الرجولة ...

معاني المسئولية ...

معاني الإجتهاد ...

معاني الإعتماد علي الذات ...

معاني إحترام الأخريين ...

معاني كثيرة غرسها أبي بداخلي عندما كان يصر علي أن أتحمل المسئولية وأنا لازلت إبن العاشرة وأن أعمل بجد لكي أكسب ماأقضي به إحتياجاتي وأن تكون متطلباتي وفق قدراتي المالية وما أجنيه من أموال لا وفق قدرات أبي وما أستطيع أن أخذه منه بطريقة أو بأخري.

أشكرك ياأبي علي كل مافعلته من أجلي وإن كان درسك الأول لي في حياتي بأن دفعتني لإن أكتشف نفسي وقدراتي كافي لإن أظل أشكر لك طول عمري حتي وإن إختلفت معك في الكثير ولكن القليل الذي أعطيتني إياه هو كثير .. كثير... كثير.

لقد علمني أبي بقصد أو بدون قصد أنني لاأستطيع أبدا أن أطلب إلا ماأستطيع تدبر ثمنه وأن الأموال التي أجنيها لاأستطيع صرفها كلها في شراء شئ واحد أريده ولكن يجب علي أن أتدبر أمري لأستطيع شراء أشياء كثيرة قد أحتاجها في أوقات لن يكون معي ثمنها. لقد كان الدرس الأول قويا وفعالا ، عندما علمني أبي أن أفرق بين إحتياجاتي ومتطلباتي وأن لاأنساق وراء متطلباتي اللحظية عندما أملك ثمنها لأستطيع توفير إحتياجاتي عندما لايتوفر لدي تكلفتها.

في يوم من الأيام جائني موظف يعمل معي في الشركة وبدأ في بث شكواه من المواصلات والمشوار البعيد وإضطراره لإنتظار الميكروباص إلي مايزيد عن النصف ساعة غير المدة التي يقضيها الميكروباص في تنزيل الركاب وتحميل غيرهم. وإنتهي موظفنا العزيز أنه يحتاج لشراء سيارة صغيرة حتي يتمكن من الإلتزام بمواعيده ويرحم نفسه وأهله من عذاب المواصلات ، وأنه قد إستطاع بكثير من التدبير توفير مبلغ من المال يمكنه من دفع مقدم للسيارة ويطلب بعض المساعدة المالية والفنية في إنهاء هذا الآمر الذي ينغص عليه حياته.

وقد تفاعلت جدا مع هذا الشاب المكافح الذي يعمل جاهدا علي التعامل مع ظروفه بكثير من الحكمة ...... طبعا هُراء.

عرضت علي هذا الشاب المكافح أن أقوم بإستكمال المبلغ المطلوب لشراء سيارة صغيرة مستعملة وذلك بأن أدفع مبلغ مساوٍ لما يملكه وهذا المبلغ مجتمعا سيكفي لشراء هذه السيارة والتي يستطيع أن يتعلم فيها سياقة السيارات وذلك حتي يستطيع أن يتدبر مبلغ أخر وحينئذ سيتمكن من شراء سيارة أخري حديثة .. وهكذا دواليك.

ولكن المفاجأة ككثير من المفاجأت التي قابلتني وقابلتكم في هذا الكتاب هو أنه طلب أن يأخذ المبلغ الذي سيتم تجميعه ليدفعه كمقدم سيارة بضمان الشركة علي أن يقوم بسداد الأقساط الشهرية لمدة خمسة أعوام. تصوروا أنه لكي يحقق متطلباته من أن يكون له سيارة حديثة موديل السنة مثل فلان وعلان فإنه قد قرر أن يضع إحتياجاته المستقبلية هو وعائلته وأولاده ومدارسهم وعلاجهم ومأكلهم ومشربهم وملبسهم تحت رحمة إنسياقه لتحقيق هذا الطلب. إن كل مايحتاجه الآن هو سيارة صغيره ترحمه هو وعائلته من المواصلات وشرها ، كما أنه لايملك حتي المال الكافي لشراء هذه السيارة وقد جاء ليتسلف باقي قيمة هذه السيارة ولكن بقدرة قادر تولدت لديه الفكرة الذراعية الغريبة في وضع المبلغ الذي تسلفه حالا كمقدم لسيارة لايحتاجها بل يتمناها ويضع علي عاتقه أقساط شهرية بجانب المبلغ الذي تسلفه.

دعوني أزيدكم من الشعر بيت ....

عندما واجهته بموقفه الغريب هذا وأن فكرته لاتروق لي وأنه يجب عليه أن يفكر بعقله في إلتزاماته الحاليه وماينتظره من إلتزامات مستقبلية لايتوقعها ، كان رده الأغرب ... خليها علي الله ياباشمهندس

وهل كان هناك شئ قبل ذلك أو بعد ذلك علي أحد أخر غير الله

إنها نفس الثقافة اللعينة التي تشكل حياتنا الآن وتجعلنا نلهث وراء متطلباتنا بغض النظر عن إمكانتنا وننسي مع الوقت أن تأمين إحتياجاتنا التي تلزمنا أهم بكثير من توفير متطلباتنا التي نتمناها.

هل أساء أباء هذا الزمن تربية أولادهم للدرجة التي جعلتهم لايستطيعون ترتيب أولوياتهم وتجرفهم إغراءات المتطلبات وتقليد الأخريين والتحول من الطموح المشروع إلي الطمع الغير مشروع ليضعوا أنفسهم قبل الجميع ولايستطيعون إنتظار أحد بل ويتوقعون أنهم لهم الحق في المرور من الجميع في سبيل تحقيق إحتياجاتهم

عندما أذهب إلي الساحل الشمالي في الصيف وأري الأولاد الصغار والشباب الذين هم أمل هذه البلد وهم يجلسون في المقاهي ليدخنوا الشيشة - والتي يصل سعرها إلي أزيد من عشرين جنيه – وهم يتسامرون حتي ساعات الصباح الأولي وعند الحساب يقوم كل واحد منهم بدفع مالايقل عن خمسين جنيه ، أتذكر عندما كنت في مثل سنهم وأنا أذهب إلي العمل منذ الصباح وحتي منتصف الليل وأنا لا أشعر بالتعب بل أشعر بالفخر لإنني إستطعت أن أتغلب علي متطلباتي وأن أضع أولوياتي فوق شهواتي وأن أقضي وقتي في شئ يفيدني ويجعل مني رجلا.

كنت جالسا في إحدي الكافتريات الصيفية المنتشرة في منطقة الساحل الشمالي وبجانبي تجلس عائلة كبيرة تضحك وتتسامر بصوت مسموع لنا كلنا وأعتقد أن صوتهم لم يكن يضايقنا مثل أنه لم يكن يضايقهم نظرا للقصص الظريفة التي كانوا يحكونها فيما بينهم والتعليقات التي تصاحبها والتي لم تكن تخلو من بعض الإسقاطات الظريفة.

ونحن جالسين مستمتعين بالجوار ، إذا بشاب جامعي يدخل علينا ببنطاله الذي يكشف ملابسه الداخلية ويتجه إلي الرجل الوقور الذي يجلس بمنتصف الطاولة وهو يلقي فقط بالتعليقات علي مايقال وبشكل جادي ساخر. وقف الشاب بجوار الرجل الوقور وبدأ في الحديث بصوت مسموع لنا كلنا:

الشاب : هاي داد

الأب : هاي ياسيدي

الشاب : أنا رايح مارينا حأقابل أصحابي هناك

الأب : طيب ياسيدي

الشاب : كنت عايز مفتاح عربيتك علشان فيه خمسة من أصحابي جايين معايا

الأب : ليه بقي ياسيدي .. أومال فين عربيتك

الشاب : ماهي موش ممكن حتقضينا كلنا وبعدين مانت عارف إن النور اللي قدام فيه مشكلة

الأب : وماصلحتهوش ليه بس يابني

الشاب : ماهو صالح السواق ماكانش فاضي النهاردة

الأب : طب ومارحتش ليه صلحته بالنهار ده موش حياخد منك ربع ساعة

الشاب : واط أر يو ساينج داد (بتقول أيه ياوالدي)

الشاب : أروح فين وبعدين أنا ماعرفش بيتصلح إزاي ده

الأب : ياسلام .. تروح عند الكهربائي وتخليه يغير لمبات الفوانيس اللي قدام .. مشكلة كبيرة دي

الأم : خلاص بقي يا بابي .. إديله العربية وبكرة لما ييجي صالح يبقي يروح يصلحها.

الأب : إتفضل ... شباب أخر زمن

الشاب : طب إيدك بقي علي تلتميت جنيه

الأب : ليه هوه إنت عازمهم والا أيه

الشاب : داد .. إحنا رايحين الحفلة وبعدين حنطلع نقعد في أي كافيه

الأب : إتفضل ياسيدي بس ماتنساش تحط بنزين وألا عايز صالح كمان يحطلك بنزين

الشاب : لا موش للدرجة دي .. أي كان دويت ( أنا أقدر أعملها) بس أيدك بقي علي ميتين جنيه كمان علشان البنزين

الأب : إتفضل .. وماتتأخرش

الشاب : حاخلص وأرجع علي طول علي أربعة .. أربعة ونص ، سي يو جايز (أشوفكم بقي ياجماعة)

الأم : تيك كير ياحبيبي ( خد بالك ياحبيبي)

هل يمكن أن يقع كل هذا الإختلاف بين طبائعنا التي تربينا عليها وبين مافرضته علينا ثقافتنا الجديدة ؟

إنني علي أتم القناعة أن هذا الأب وكل الأباء من جيلنا والأجيال السابقة لن يختلف أسلوب تربيتهم عن ماتربينا كلنا عليه وأن أبي هو نفس الأب لكل جيلنا لإن ثقافتنا وقتها كانت متماثلة وطرق التربية التي كانت متبعة وقتها كانت مبنية علي إحترام الذات والإعتماد علي النفس وكان كل أب يفخر بأبنه الذي يستطيع أن يقوم بأعماله بنفسه ويعتمد علي نفسه في أداء فروضه المنزلية وبدون الإحتياج إلي دروس خصوصية.

كان أبي يفاخر أصدقاؤه بأنني أتممت دراستي بدون أن أخذ درس خصوصي واحد وكنت أفاخر أصدقائي بأن أول سيارة إشتريتها في حياتي كانت وفق المبدأ الذي وضعه أبي بالإعتماد علي الذات وذلك بأنني قد وفرت نصف ثمنها من عملي ومكافأة منه قام هو بإستكمال النصف الثاني.

لقد قام أبي بتربيتي علي الأعتماد علي النفس وأن الرجولة هي أن أقوم بعمل كل ماأستطيع عمله بنفسي لا أن أتكل علي أحد حتي ولو كان السائق الذي يعمل لدينا أو الموظف الذي يعمل بشركة أبي. لهذا كنت أستشعر معاني الرجولة في كل تصرف أقوم به وكنت أشعر بالمسئولية تجاه الأخريين قبل نفسي

لقد إستطاع أبائنا أن يربونا وأن يزرعوا فينا معاني كثيرة صنعت منا رجالا يُعتمد عليهم وهم لازلوا صغارا وتم تطعيمنا بلقاح ضد الثقافات الهدامة. ولكن يبدو أن هذا اللقاح كان يجب أن يؤخذ علي فترات متعاقبة علي مر السنين حتي يستطيع التأثير علي فيروس ثقافة الذراع التي إنتشرت بيننا ، ولهذا نجد بعضنا وقد تحصن بلقاح التربية السوية والبعض الأخر وهم كثير قد ضعفت مقاومتهم وتحول اللقاح من مصل مضاد للفيروس إلي ذّريعة صغيرة بدأ منها المرض.

إن الفارق بين اليوم والأمس أنه بالأمس كان أباؤنا هم من يقومون بتربيتنا وفق قواعدهم ومناهجهم وفلسفتهم ، أما اليوم فإن أولادنا هم الذين يربونا وفق متطلباتهم وقدرتهم علي أخذ مايريدونه منا بالدلع تارة وبالمحايلة تارة أخري وفي كثير من الأحيان بخضوعنا وإستسلامنا للثقافة الجديدة التي تمكنت منا وحتي لانصبح أباء مودرن ولأن الدنيا كلها ماشية كده. ولا أيه يا .. داد

هل تم إختصار التربية الآن في أن يتكلم أولادنا لغة أجنبية بطلاقة ؟

هل أصبحت دلالات التربية الآن هي فيما يلبسه أولادنا وفي النوادي التي يرتادونها وفي كم المصروف الذي يأخذونه ؟

هل التربية الحقة هي في العطاء بدون حد أم في المنع المشروط ؟

قبل أن نعود أولادنا سياقة السيارات ، علينا أولا أن نعودهم علي إحترام المرور والطريق وحق الآخريين ، بل أنه علينا أيضا أن نعلمهم أن يعملوا ويكسبوا رزقهم ويوفروا منه لشراء السيارة التي يستطيعون شرائها لا التي نوفرها نحن لهم.

قبل أن نعود أولادنا علي طلب مايريدونه ، يجب علينا أن نعلمهم متي يمكنهم الطلب وكيف يمكنهم تحقيقه بأنفسهم لا عن طريق طلبهم فقط لما يريدونه بل عن طريق العمل بأنفسهم علي تحقيقه.

قبل أن نطلب منهم أن يكونوا رجالا ، يجب علينا أن نعلمهم أولا.... كيف يمكن أن يكونوا بحق ...... رجالا.

ليست هناك تعليقات: