الأحد، أبريل 11، 2010

12 - درس خصوصي ... جدا


قديما قالوا لنا أن قف للمعلم وفه التبجيلا .. كاد المعلم أن يكون رسولا. نعم كان المعلم قديما مثالا للأمانه العلمية والأخلاقية والإجتماعية و ..... كل أنواع الأمانات التي يمكن للعقل البشري أن يتصورها لا لإنه كان نزيها أو مؤمنا أو عنده أخلاق أو بيعرف ربنا ... ولكن لسبب واحد أبسط وأشمل وأعم ... لقد كان معلما.

زمان كان المدرس أو الخوجة شكل تاني ، مضمون أخر ، أسلوب مختلف. كان المدرس زمان له هيبة يفرضها موقعة كمعلم أجيال يأمتنه أولياء الأمور علي أولادهم ليعلمهم ليس فقط النواحي العلمية التي تؤهلهم للترقي في صفوف الدراسة ولكنه كان أيضا مسئولا عن تعليمهم كيفية التعايش مع الآخريين ، تعليمهم الأخلاقيات النابعة من ديننا ومن قيمنا وتراثنا ، بل وتعليمهم أيضا معني الإحترام وكيف يمكنهم أن يعيشوا محترمين إذا ماقدموا لأنفسهم بأن إحترموا من حولهم.

كان المعلم هو المدرسة ، بل كان المعلم هو الأداة التي تعمل علي توصيل كل مايريده الأهل من أخلاقيات وتعاليم وأسس ومبادئ إلي أولادهم. لذا كان البيت يسلم للمعلم بهذه المهمة ويترك له الطريقة التي يختارها لتعليم الأولاد طالما قبل الآهل المدرسة التي يرسلون إليها أولادهم ، كان ذلك يعتبر تفويضا للمدرس بأداء مهمته بدون تدخل من البيت إلا للمتابعة وأداء دورهم في إستكمال رسالتهم من البيت.

ولأن القيم زمان كانت مختلفة عن قيمنا اليوم ، ولإن الثقافة زمان كانت مبنية علي الإبداع في إيجاد الحلول لمشاكلنا اليومية من قلة الدخل وتعنت المديرين ومطالب البيت وما إلي غير ذلك من المشاكل التي تدفعنا اليوم إلي التعامل معها إنطلاقا من ثقافتنا الجديدة - ثقافة الذراع – والتي لاترينا إلا طريق واحد لحل مشاكلنا ألا وهو أن نحكم ذراعنا لا عقلنا لنأخذ مانستطيع بقوة الذراع أو بقوة الواسطة أو بقوة الفهلوة أو بقوة الإستحلال ، الأمر الذي أصبح معه كل شئ في المجتمع مستحلا حتي القيم والأخلاقيات وشرف المهنة.

زمان كان المدرس يذهب إلي عمله ليربي أجيال ولم يكن أبدا يفكر أن هؤلاء الأولاد الذين هم مستقبل البلد وأملها سيصبحون في يوما من الأيام ثمن رخيصا لإحتياجاته المادية أو متطلباته الحياتية مهما تعاظمت هذه الإحتياجات أو تكالبت عليه الظروف والمشاكل التي تدعوه لأن يقدم التنازلات من أجل تحقيق أهدافه الشخصية.

كان المدرس يعلم تماما مهام وظيفته ، يعلم تماما أنه يأتي للمدرسة بصفته مؤتمنا من أولياء الأمور علي أولادهم وأن ميثاق شرف المهنة يحتم عليه أن يلتزم بدوره التربوي وأن يتفاني في شرح الدروس والتأكد من أن كل طالب قد فهم القدر المطلوب حسب قدرته والذي يمكنه من متابعة دروسه في البيت ودون الإحتياج إلي أحد أو طلب المساعدة من أحد.

لم يكن ميثاق شرف المهنة هذا معلنا أو متضمنا في مستندات تعيين المدرس في وظيفته ، ولكنه كان مفعلا تمام التفعيل لكل من ينتمي لهذه المهنة الشريفة . كان هذا الميثاق معلنا وإن لم يكن مكتوبا ، معمولا به وإن لم يكن معتمدا من جهة رئاسية ، مفعلا من الجميع وإن لم يكن ذو صبغة قانونية.

كان المدرس في هذا الزمان الجميل معلما للأجيال بحق ، تراه معلما في الفصل وتراه تربويا في فترتات الراحة وتراه والدا عند العقاب بينما يكون صديقا عند النقاش. كان المدرس في هذا الزمن الجميل هو حجر الأساس الذي يتم وضعه لمستقبل أبنائنا من قبل الدولة والمجتمع ومن ثم نقوم نحن بعد ذلك بإستكمال البناء والأستثمار في أولادنا لنفيد الدولة ونساعد في تطوير المجتمع . لقد كانت العلاقة بيننا وبين الدولة في هذا الزمن الجميل علاقة ثنائية تسير في الإتجاهين بحيث كانت الدولة تهتم بإخراج مدرسين فاهمين لمهام وظيفتهم ومؤمَنّين ضد الفساد والمقايضة بالإحتياجات عن طريق تأمين الحد الأدني من الإحتياجات الذي يحافظ عليهم شرفاء. وكانت العائلة بالتبعية تقوم بدورها في الإهتمام بأولادها لتخرجهم فاهمين لحقوق الناس من حولهم وحقوق الدولة عليهم وترسخ فيهم معاني الشرف التي تدفعهم إلي التعامل مع مشكلاتهم الحياتية والمادية إنطلاقا من القبول لوضعهم ووضع الناس من حولهم ووضع الدولة التي تتفاني من أجلهم فلاينساق أحدهم إلي تطبيق سياسة الذراع لإنه يحتاج هذا أو لإن الآخريين قد أخذوا مالايستحقونه أو لإن الدولة لم تقوم بدورها.

هل أخذ طه حسين دروس خصوصية يوما ما في اللغة الفرنسية أو في الأدب العربي ليصبح عميد الأدب العربي ؟

هل فعلها يوما العقاد أو عبد الوهاب أو أنيس منصور ؟

هل يستطيع أحد أن يخبرنا عن والده أنه كان يأخذ دروس خصوصية في كل المواد الدراسية لإن المدرسين لايقومون بشرح المواد الدراسية علي الوجهه الأكمل ؟

أرجوكم .. أريدكم أن تسألوا وتتيقنوا قبل الإجابة . أعلم أنه كان هناك بعض الباشوات وأفراد العائلة المالكة يقومون بإحضار مدرسين خصوصين لأولادهم في الصغر ولكن يجب علينا جميعا أن نعلم أنهم كانوا يقومون بذلك من أجل نقل الثقافة الغربية لأولادهم وليس من أجل التعليم الدراسي.

لقد كان المدرس يقوم بواجبه في المدرسة من شرح الدروس الخصوصية وتوجيه الطلاب وكأنه في درس خاص يقبض من وراءه الكثير من المال كحال مدرسينا في هذه الأيام.

وأستطيع أن أسمع الكثير منكم وهو يقول أن ظروف الحياة في هذه الأيام حيث الراتب لايغطي مصروفات ثلث الشهر وأن المدرس مثله مثل غيره من البشر يحتاج لأن يعيش ويرعي أولاده وأهل بيته وأن يركب سيارة ويلبس ويصرف ويصيف مثله مثل باقي المهن الوظيفية التي حوله وإلا لأصبح قدره بأن يصبح مدرسا هو نقمة عليه يدفع هو ثمنها ليعلم أولادنا بينما نحن نرتع في الخيرات ونركب السيارات ونرتاد المصايف.

ولكن هذا هو بيت القصيد ... فمنذ متي كان لنا الحق أن نقايض علي أخلاقياتنا ؟

منذ متي كان لنا الحق أن نقايض علي ضمائرنا ؟

بل منذ متي كان لنا الحق أن نقايض علي أولادنا ؟

عفوا أيها المعلم .. فأنا لن أقبل منك أي أعذار عندما نتحدث عن أخلاقيات مهنة سامية مثل مهنتك .

أنا لن أقبل منك أي أعذار عندما أتحدث عن أستاذي الذي يعلمني كيف أصبح إنسانا ..

لن أقبل أي أعذار عندما أتكلم عن من كاد أن يصبح رسولا فإذا به تحت وطأة الحاجة وسيطرة النفس البشرية وضيق ذات اليد يتحول لأن يكون أبا جهل وإن كان من قبل هو نفسه أبا الحكم.

نعم لن أقبل أن يتحول أساتذتي وأساتذة الأجيال إلي تطبيق ثقافة الذراع علينا لكي نرسل أولادنا إلي معاقل دروسهم الخصوصية لكي نضمن نجاحهم المزور .

نعم لن أقبل أن أُستحَل من قبل أساتذتي وأن أقايض بنجاح أولادي الباهت علي شرف مهنة كانت شريفة ولابد أن تظل كذلك سواء رضينا أم لم نرضي.

لن أقبل أعذارا حتي وإن لم أكن في موقف القاضي الذي يستطيع إصدار حكم بالجلد حتي الموت علي هذا المدرس الذي تخلي عن شرفه وقبل أن يبيعه بقليل من المال .. وإن كثُر.

نعم لن أقبل منك وإن كنت أتفهم إحتياجاتك وتطلعاتك التي هي مشروعة بكل التأكيد طالما لم يكن الثمن هم أبنائنا . طالما لم يكن الثمن هي نزاهتك . طالما لم يكن الثمن هو ميثاق شرف مهنتك.

تري .. أين تكمن المشكلة ؟

هل ندفع نحن الآن ثمن مجانية التعليم .. ؟

إذا كان الثمن هم أولادنا وأبنائنا .. فلتذهب مجانية التعليم إلي الجحيم ..

إسألوا هولاء الأباء الذين لايجدون مايكفي إحتياجاتهم المعيشية عن مصروفاتهم ، لتكتشفوا المفارقة المذهلة.

إن ربع دخل رب الأسرة المتوسطة في مصر إن لم يزيد يذهب في الدروس الخصوصية ليحل مشكلة المدرس الذي تنازل عن أساسيات مهنته وأصبح بقدرة قادر تاجر يبيع العلم لمن يستطيع دفع ثمنه بدلا من أن يكون راهبا في محراب العلم.

إذا فلنواجه الأمر بشئ من الواقعية . لماذا لاتأخذ الدولة هذه المصروفات التي يدفعها رب الأسرة قسرا لمعدومي الضمير وتقوم بهذه الأموال بإعادة هيكلة عملية التعليم في مصر وتحسين دخل المدرس لكي لايحتاج لمد يده حتي لا يتم قطعها؟

لماذا لانقوم بوضع مواثيق شرف للمهن المختلفة ونعمل علي تفعيلها بقوة القانون طالما أن قوة الضمير لم تعد مفعلة ؟

لماذا أصبحنا نهتم بكم الخريجين ولم نعد نهتم بمستوي هؤلاء الخريجين وأخلاقياتهم التي هي في إنحدار لكي تثبت لنا إنهيار حجر الأساس أثناء وضعه وقبل الشروع في بناء الإنسان المصري ؟

لماذا قبلنا أن نُستحَل ممن لايُقبل منهم أبدا أن يستحلونا ؟

لماذا نقبل الدنية في أولادنا .. وفي دنيانا ... بل وفي ديننا أيضا ؟

ليست هناك تعليقات: