الأحد، أبريل 11، 2010

11- المرور ... أولا ..


لإنني من هواة السفر والترحال بين بلاد الله ، فإنني قد إعتدت في كل رحلة لي أن أقرأ عادات الشعوب وطبائعهم وأسلوب حياتهم كنوع من أنواع تنوع الثقافات كما أنني أستطيع أن أعتبره نوع من أنواع شحن بطاريات الطاقة التي تُستهلك أثناء فترة جلوسي في بلدنا مصر بين العمل والأهل والأصحاب فضلا عن المعاناة اليومية أثناء الإنتقال بين شوارع العاصمة والتي أحتاج خلالها لمدة حوالي ساعتين للإنتقال من مصر الجديدة إلي المهندسين ومثلها أثناء رحلة العودة. ولكن كل هذا يهون في حب مصر والتي لاأشعر بمدي حبي لها إلا عندما أسافر وأستمتع بالناس والشوارع والجو والتعامل مع الأجناس الأخري ثم أجد نفسي أعود مرة أخري لبلدنا مصر لإنني أحبها أو لإنني قد أعتدت علي شقائها.

تعلمت من رحلاتي خارج مصر أنك تستطيع بسهولة تكوين فكرة مبدئية حقيقية بنسبة كبيرة عن ثقافة أي شعب من خلال مشاهدتك لطباعهم المرورية ومدي إلتزامهم بتطبيق قواعد المرور حتي ولو سنحت لهم الفرصة لكسر هذه القواعد. بل إنني علي تمام اليقين أن الإنسان المنظم والمحترم هو من يستطيع أن يحترم النظام حتي في ظل غياب الرقابة وأن إحترامنا لأنفسنا ينبع في الأساس من خلال إحترامنا لغيرنا وإحترامنا للقوانين سواء قبلناها أو لم نقبلها لإنك لن تستطيع أن تطلب من الآخريين إحترامك إن لم تحترم نفسك ، وإحترامك لنفسك يجبرك علي تطبيق القوانين والنظم في الخفاء قبل العلن وذلك لإنك تحترم نفسك والتي هي عليك رقيبة قبل الناس.

عندما تسير في شوارع المدن العربية – الخليجية علي وجه الخصوص – والمدن الأوروبية – الغربية علي وجه الخصوص – والمدن الأمريكية – الشمالية علي وجه الخصوص ، فإنك تستطيع أن تستشعر الإلتزام كطبيعة من طبائع أهل هذه المدن. بل إنك تستطيع وأنت تقف في إشارة المرور التي تمتد علي مرمي البصر أن تري النظام مجسدا في طابور السيارات الطويل الممتد علي مرمي البصر بدون أن تسمع صوت ألة تنبيه وبدون أن تجد أحد السائقين يخرج من الصف ويمر أمامك في محاولة منه لأن يقف أمامك.

إن الإلتزام المروري هو الصفة الغالبة علي طباع البشر في أوروبا والدول المتقدمة . لذا فإنهم عندما يأتون إلينا هنا في مصر نجدهم ينظرون إلي سائقي السيارات وكأنهم يشاهدون هؤلاء المهرجين في السيرك القومي وهم يقومون بحركات بهلوانية غير متوقعة لانستطيع معها إلا أن نضحك حتي لايقف قلبنا من الخضة.

كان لي صديق أمريكي جاء منذ حوالي العام في زيارة سياحية إلي مصر التي قرأ عنها في كتب التاريخ وتشبع بحضارتها التي إمتدت عبر السبعة ألاف عام والتي تقف الأهرامات والمعابد والمسلات شاهدة علي عظمتها التي كانت .... عظيمة يوما ما.

وقد إشترط صديقي عليّ أن أتركه يهيم في مصر وحده بدون أي مصاحبه من أحد لأنه يريد أن يخوض التجربه بنفسه وبدون أي تدخل أو تأثير من أحد وذلك لأنه يعتقد أنه يعرف عن مصر الكثيرويريد أن يختبر معرفته لنفسه وبنفسه.

وبعد أن أمضي صديقي حوالي أسبوعين هائما بين شوارع القاهرة والأقصر وأسوان وسائحا في شرم الشيخ وزائرا لكل معلم سياحي إستطاع الوصول إليه ليري بأم عينه ماقرأ عنه في الكتب ويتأكد أن معرفته المكتبية قد توثقت بحقائق وشراهد رأها وعاشها ومارسها بنفسه . إتصل بي صديقي ليخبرني زنه قد أنهي زيارته وأنه سيسافر اليوم مساءاً عائدا إلي بلده بعد تجربه عميقة مريرة في معاناتها ولكنها عظيمة في نتيجتها.

وأنا في طريقي إلي المطار في حوالي الساعة الثامنة مساءاً لأوصل صديقي ليلحق بطائرته والتي ستقلع في الساعة الواحدة صباحا وذلك حسب طلبه أن نتحرك علي الأقل خمس ساعات قبل ميعاد الإقلاع لنتلافي الزحام وماقد ينتج عنه من تأخير. سألت صديقي ونحن في الطريق :

أنا : كيف وجدت مصر ؟

صديقي الأمريكي : بدون زعل ..

أنا : أبدا ..

صديقي الأمريكي : إن مصر هي .....

إن مصر هي .. أفضل فوضي منظمة

أنا : ماهذا ؟ إنني لإول مرة أسمع هذا الوصف عن مصر

صديقي الأمريكي : ياصديقي إن الفوضي عندكم هي العنوان . أنظر إلي الشوارع وكيف يسير الناس في صفوف ثعبانية حيث يلتف الذيل حول الرأس

أنظر إلي الخط الأبيض والذي يجب أن تسير السيارات بجانبه لا فوقه .. هل تستطيع أن تري الخط الأبيض عندكم

أنظر إلي هذه الميكروباصات كيف تقف فجأة وتتحرك فجأة وينزل منها الناس فجأة ويصعد إليها الناس فجأة

أنظر إلي الناس من حولك وقد قرروا أن يعبروا الطريق حتي ولو كان الثمن حياتهم

إنها الفوضي بعينها ... إن تعبير كلمة الفوضي قد تم إختراعه ليصف الشارع المصري

أنا : بس بالرغم من كل ده .. الناس أهي ماشية وعايشة وبتضحك كمان

صديقي الأمريكي : لهذا أقول لك أنها أفضل فوضي منظمة

لقد إستطعتم أن تخلقوا هذه الفوضي وأن تضعوا نظام عجيب خاص بكم يمكنكم من التعايش معها . لقد إستطعتم أن تضعوا النظام الذي يمكنكم من إحترام الفوضي التي خلقتوها بأنفسكم

أنا : بدأت أفهمك للأسف ...

صديقي الأمريكي : إنني أتفهم تماما وجود مثل هذه الفوضي في ظل الأمكانيات المتاحة ولكنني لا أستطيع علي الأطلاق أن أفهم كيف إستطعتم خلق هذا النظام العجيب الذي يمكنكم من التعايش مع هذه الفوضي إلا إن كنتم قد إستطعتم أن تجعلوها ثقافة عامة تعيشون وتتعايشون بها.

أنا : أري أنك قد تعمقت في دراستك لمصر

صديقي الأمريكي : الأمر لايحتاج إلي تعمق أو تبحر في الدراسة ، الأمر واضح وضوح العيان

أنا : عموما ، إن هذا الوصف هو الأول من نوعه بالنسبة لي

صديقي الأمريكي : بل هو الأول من نوعه بالنسبة لي أنا

وسافر صديقي الأمريكي إلي بلده حيث الزحام الشديد والألتزام المروري الأشد مخلفا وراءه العديد من علامات الإستفهام وعلامات التعجب علي حالنا وأحوالنا وتحولتنا.

هل حقا وصلنا إلي هذه الدرجة من الفوضي المنظمة التي قبلناها وتقبلناها وأصبحت ثقافة نعيش بها ونغذيها لتكبر فينا وتتملكنا وتصبح هي الأسلوب الأمثل لنعيش في بلدنا ؟

هل هذه العشوائيات التي تنتشر داخل قلب العاصمة كالسرطان الذي ينتظر الفرصة ليستشري في كل الجسد هي دلالة قاطعة علي إنتشار الفوضي في قلب العاصمة ؟

وهل فشلنا في السيطرة علي هذه العشوائيات وقبلنا التعامل معها كأمر واقع نجمع لهم التبرعات ونوفر لهم الغذاء وفرص العمل حتي لايثور علينا هذا السرطان ويصبح مع الوقت هو الدليل الدامغ علي ضعفنا وعلي قبولنا التعايش مع هذه الفوضي من باب اللي ماتقدرش تغلبه ... صاحبه؟

هل سير السيارات فوق الخط الأبيض المرسوم وسط كوبري ستة أكتوبر ليكونوا حارة سير ثالثة علي طريق مكون من حارتين فقط هو دليل الفوضي المرورية وإنتشار ثقافة الذراع الفوضوية بيننا ؟

وهل إستسلامنا لهذه الحارة المرورية التي تولدت علي حساب شعورنا بالنظام والإلتزام به هي دليل علي خنوعنا ؟

هل جبروت سائقوا الميكروباصات وتلذذهم بإشاعة الفوضي بيننا وإجبارنا علي السير وفق نظامهم لا وفق نظام المرور هو دليل قوتهم وجبروتهم أم دليل ضعفنا وإستسلامنا؟

أم تري أن عدم مقاومتنا للخطأ الذي نراه كل ساعة ولانملك إلا الدعاء عليهم هو دليل ضعفنا وهواننا علي أنفسنا قبل الناس ؟

لقد أصبح المرور من الآخريين وعلي حساب الآخريين وبمساعدة الآخريين وبقبول الآخريين هو المبدأ الذي نعيش به الآن . أصبح كل واحد منا يري أن من حقه المرور أولا .

ولكنني أري أن إصلاح حركة المرور وإعادة تأهيل المواطن المصري لكي يحترم النظام المتمثل في إشارة المرور والخط الأبيض والحارة المرورية وضابط المرور وقوانين المرور هو أول خطوة لكي يتعلم المواطن المصري أن هناك نظام يجب أن يتبع وأن هناك دور لكل واحد فينا وأنه لايمكن لأحد أن يجور علي حق غيره حتي وإن إمتلك القوة التي تؤهله لذلك أو غابت أدوات الرقابة التي تمنعه من ذلك.

صدقوني .. إن أردنا إصلاح ذاتنا ومقاومة ثقافة الذراع الفوضوية هذه فإنني أؤكد لكم أنه يجب أن نحترم... المرور .. أولا.

ليست هناك تعليقات: