الأحد، أبريل 11، 2010

10 - اللهو الخفي ....


إن معظم الشركات العالمية التي تعمل في مجال السلع الإستهلاكية والخدمات التي تستهدف العميل ويكمن ربحها في مدي رضاء العميل عن الخدمة التي يتم تقديمها ، تقوم بتوفير نوع مميز جدا من الخدمة يسمي بخدمة مابعد البيع يتم توفيرها لعملاء الشركة الذين نفذوا عملية البيع والشراء أولا بناء علي إشتراطات البائع ومن ثم فإنهم يستحقون التمتع بخدمة مابعد البيع حيث يتم توفير خدمة الصيانة وضمان الأعمال وقطع الغيار الأصلية التي تخدم السلعة التي شرائها. المهم في هذه الخدمة أنها تقوم في الأساس علي عملية تحليلية للبيانات الأحصائية التي يتم توفيرها عن طريق قسم خدمة العملاء والذين تكون مهمتم تقييم الخدمة التي قامت الشركة بتقديمها لتحليل مستوي رضاء العميل عنها وإستعداده الشخصي للإستمرار في التعامل مع الشركة بناء علي مستوي الخدمة التي تقدمها الشركة سواء كانت خدمة البيع أو خدمة مابع البيع .... المهم الخدمة التي نقدمها من أجل تعظيم العائد بعد ذلك ...... أي أن الخدمة قبل العائد.

ولكن عندنا ... الأمر مختلف .. عندنا ننظر جميعا إلي العائد أولا، ننظر إلي النتيجة قبل أن ننظر إلي سير الأجراءات التي تضمن النتيجة.

عندنا نهتم جدا بالكم قبل أن نبحث عن الكيف ، لإن الكيف يمكن التغلب عليها بعدة طرق قد تختلف من شخص لأخر بناء علي ثقافته وأسلوبه في العمل وقناعاته الشخصية وإن كانت جميعها ستنتهي إلي نقطة إتفاق واحدة يتلاشي عندها الفروق ويتقابل عندها الفرقاء ألا وهي كم سنجني من وراء هذا أو ذاك.

في إحدي زياراتي لمصنع ملابس التي من المفترض أننا نشتهر بصناعتها لإن مصر من الدول الرائدة في زراعة القطن والذي كان علامة مميزة في صناعة الملابس علي مستوي العالم عندما كانت دول العالم تكن كل الإحترام للقطن المصري طويل التيلة والذي أخذ في القصر حتي أصبحنا نحتاج إلي ميكروسكوب لنستطيع تحديد طوله بعدما إستطاعت الهند والصين وتركيا والمكسيك أن تنافسنا في إحدي ميزاتنا التي حبانا بها الله سبحانه وتعالي وأصبحوا قادرين علي أخذ حصة كبيرة من السوق العالمي وأصبحنا نحاول إبرام الإتفاقات التجارية التي تضمن لنا حصة بعدما كانت دول العالم تتهافت علينا. بل والأدهي من ذلك أن هذه الدول قدمت إلينا لتغزونا في أرضنا وتبيع بضاعتها لنا نحن المصريين ونحن لانستطيع في المقابل بيعهم واحد علي عشرة من حجم صادراتهم إلينا. وبتطبيق قاعدة الهدف بهدفين خارج الأرض نجد أن النتيجة الآن أصبحت أربعة وسبعين لصفر لكل دولة علي حدة ، ولازلنا نحلم بالوصول إلي النهائيات.

المهم أنني عند زيارتي للمصنع وقيامي بتفقد خطوط الإنتاج وخطط مراقبة الجودة إستطعت إكتشاف سر من أسرار العبقرية المصرية في الإدارة والتي تعتمد في مجملها علي النتائج لا الإجراءات.

لقد إكتشفت أن وحدة مراقبة الجودة في المصنع هي عبارة عن طاولة كبيرة يجلس عندها العديد من الفتيات حيث يتم تجميع الإنتاج اليومي ووضعه أمامهم ليقوموا بمراجعته قطعة قطعة للتأكد من أنه قد تم تجميع القطعة بطريقة صحيحة وإزالة أطراف الخيط والتأكد من أن الأزرار قد تم تثبيتها جيدا. ثم يتم ترحيل القطع التي تم فرزها إلي قسم الكي والتغليف ليتم تسليمه بعد ذلك في مخازن المنتج النهائي.

قد يري البعض أن هذه الطريقة كافية لتحديد جودة المنتج النهائي وأنه سيمكنهم بطبيعة الحال من فرز المنتوجات للتأكد من جودتها ومستوي القبول لكل قطعة. وأنا لن أختلف معهم كثيرا إذا ماإعتبرنا أن هذه الوحدة هي المحطة النهائية لتحديد مستوي قبول المنتج النهائي. ولكنني زختلف جذريا معهم إذا ماكانت هذه المحطة – التي يجب أن تكون النهائية – هي المحطة الوحيدة لقسم مراقبة الجودة.

عندما نسمع أو نقرأ عن تطبيق برامج مراقبة الجودة فإنه يتولد لدينا يقين أن المواد الأولية الداخلة في التصنيع قد تم مراقبتها وأن إجراءات التصنيع التي تم إتباعها تمت وفق سياسة تصنيعية قياسية تميز مصنع الملابس عن الخياط الذي يقوم بحياكة كل قطعة علي حدة وفق قدرته ومهارته ومزاجه عند تصنيع هذه القطعة وهو مايميز برامج الصناعة المتكاملة عن الحرفيين الذين يمتهنون هذه الصناعة ولكن لايمتلكون برامج التصنيع المتكاملة التي تضمن أن كل قطعة تخرج من المصنع تتشابه مع مثيلاتها وأن مقدار الحيود عن المعايير القياسية هو في أقل مستوي ممكن لهذه الصناعة.

لقد قمنا هنا بإختصار كل إجراءات مراقبة الجودة إلي نقطة تفتيش نهائية تراجع المنتج النهائي الذي سيتم بيعه وجني الأموال من ورائه وتحديد مستوي قبول المنتج من وجهة نظر الشخص الذي يقوم بمراجعة المنتج النهائي بدلا من وضع إجراءات مراجعة قياسية لكل مرحلة علي حدة. لقد أهملنا في إجراءات مراجعة جودة المادة الخام عند إستلامها ومراجعة إجراءات التفصيل ثم إجراءات التصنيع لكل خط إنتاج حتي ننتهي عند إجراءات التجميع قبل أن نبدأ في إجراءات مراجعة المنتج النهائي للتحقق من أن كل مرحلة قد تم مراقبتها بعناية ووفق سياسة الإجراءات القياسية التي تم وضعها.

إنني أتحدث عن الفرق بين مايحدث عندنا وبين مايحدث عند كل الدول التي قررت أن تتقدم في صناعتها وذلك بفرض نظام حياة علي كل المواطنين يقضي بقبول مبدأ مراجعة الإجراءات لكل مرحلة ولايجد المواطن أي غضاضة في مراجعة خطوات عمله مرحليا ضمن سياسة الإجراءات المتكاملة حتي أصبح هذا النظام هو ثقافة بذاتها يتبعها المواطنون في حياتهم العادية لتصبح بعد ذلك عادة تنفيذية يلتزم بها العمال في مصانعهم والموظفون في شركاتهم بدون الحاجة إلي إيجاد النظم التي يستطيع عن طريقها رب العمل فرض هذا النظام علي العاملين بمؤسسته.

عند دخولي إلي محطة محروقات لتزويد سيارتي بالوقود وأقف في الصف منتظرا للسيارة التي أمامي لتدفع الحساب حيث يقوم العامل بأخذ النقود والذهاب إلي شخص أخر ليعطيه المبلغ وينتظر وأنتظر معه حتي يأخذ باقي الحساب ثم يذهب لقائد السيارة التي أمامي ليعطيه باقي الحساب وينتظر البقشيش وأمامه العامل الأخر الذي يمسح زجاج السيارة ببطء رافعا مساحات الزجاج في إشارة إلي أنه قد قام بعمل إضافي يستحق عنه بقشيش أخر قبل أن يقوم بإنزال مساحة الزجاج ولايهم من ينتظر خلفه لأنه سيأتي عليه الدور ويأخذ نفس الخدمة ويدفع هو الأخر البقشيش بدوره.

أتسأل هنا .. لماذا لايتم وضع سياسة إجراءات ويتم مراقبتها من قبل مشرف الوردية تقضي بأن يتم دفع الحساب عند نقطة خروج من المحطة حتي لاتتكدس السيارات أمام مضخات الوقود في إنتظار دفع البقشيش للعمال الذين يؤدون خدمة إجبارية قد لايحتاجها الكثير منا ؟

وطبعا كلنا يعرف تماما الإجابة أن هؤلاء العمال المساكين يأخذون راتب بسيط جدا وأنهم يعتمدون بنسبة تزيد عن مائتين بالمائة علي زيادة دخلهم عن طريق البقشيش الذي يحصلون عليه قسرا من كل واحد منا وذلك بفرض ثقافة الذراع علينا ونحن نقبلها بضجر وتأفف ولكن بدون أي رد فعل.

كلنا يضطر خلال اليوم عند ذهابه لقضاء حاجات عمله إلي صف سيارته في الشارع ليس لندرة مواقف السيارات ولكن لصعوبة الوصول إليها في بعض الأحيان أو لبعدها الشديد عن مكان عمله أو للمبالغة الشديدة في تعريفة الإنتظار في المواقف المخصصة وهو مايضطر الكثير منا لصف سيارته في أي مكان خالي أو مكان سيارة تخرج من مكانها ، وهو مايحتاج إلي مهارة قيادة خاصة لركن السيارة بالتحرك إلي الأمام والخلف لعدة مرات حتي يمكن صف السيارة في المكان الخالي بين سيارتين وبدون مساعدة من أحد. ولكن فجأة عندما تهم بالتحرك من هذا الموقف الغير نظامي تجد شخصا يقف أمامك وهو يشير إليك بالتحرك للأمام وكأنه قد أوقف لك الطريق لتخرج من مكانك.

إن هذا اللهو الخفي لايظهر إلا عندما تنوي الخروج من موقفك وأنت لاتحتاج خدماته ولكنه أبدا لايظهر عندما تحتاج إليه وأنت تحاول صف سيارتك. والعجيب في هذا اللهو الخفي أنه قد حدد تعريفة خاصة به لأي شخص يريد صف سيارته في الشارع علي أساس أنه قد حصل علي صك ملكية للطريق من الدولة وأنك تقوم بصف سيارتك في أملاكه الخاصه.

وأتسأل مجددا عن مدي الصعوبة التي يمكن أن تجدها الدولة ممثلة في المجالس المحلية بحيث يتم تقنين الوضع وتعميد أناس متخصصين كما كان يحدث بالماضي مسئوليين عن تنظيم حركة المرور والإنتظار في الشوارع بحيث يصبح الرسم الذي يتقاضاه هذا اللهو الخفي هو تعريفة رسمية معتمدة ندفعها بمنتهي الرضا مقابل خدمة رسمية ويمكن أن يضاف إليها أيضا خدمة تنظيف السيارة بدلا من أن ندفعها صاغريين للهو الخفي حتي لايقوم بتخريب سيارتنا إذا ماقمنا برفض سياسة الذراع التي يطبقها علينا ونضطر لقبولها كما قبلنا أشياء كثيرة أخري غيرها.

بل أنني قد أذهب لأبعد من ذلك عندما أطالب بتعيين مفتشيين كما كان الوضع سابقا مع وسائل المواصلات والتي كنا نجد مفتش الخدمة يصعد في المحطات ليراجع التذاكر ويتأكد أن السائق والمحصل قد قاما بعملهما حسب سياسة الإجراءات الموضوعة من قبل الشركة. فلماذا لانجد مفتش علي مراقبي مواقف السيارات يأتي علي حين غرة ليتأكد من أن الموظف يقوم بواجبه ويحصل علي الرسم الموضوع فقط بدون أي تجاوز. إنني أجزم هنا أن الرسوم التي يتلقاها اللهو الخفي منا قسرا تغطي بل وتزيد عن مصروفات تعيين هؤلاء الموظفين ولكنها ستشعرنا في النهاية بإننا أدميين نعيش في دولة تحترم مواطنيها وتحاول أن تفعل شئ بسيط لإراحتهم والأدهي من ذلك أن ذلك لن يكلف الدولة شئ بل وأجزم أنه مع الوقت وبقليل من التنظيم قد يصبح مصدر دخل للمحليات أيضا.

ومن الطريق العام أذهب إلي المرحاض العام حيث لايوجد رسوم علي إستخدام المرحاض بشكل رسمي ولكن صديقنا اللهو الخفي قد ظهر هناك أيضا.

فقط حاول دخول مرحاض في المطار أو في مطعم أو مصلحة حكومية أو ماإلي غير ذلك وستندهش من قدرة هذا الشعب العجيب علي الإبداع. فعندما لايكون هناك رسم مقرر للخدمة يتفنن اللهو الخفي في إيجاد الطريقة التي تجبرك علي دفع رسم للخدمة بطريقة مباشرة.

في أثناء إحدي رحلاتي خارج مصر إضطررت إلي الذهاب إلي المرحاض لألبي نداء الطبيعة - وهو أمر عادي نمر به جميعا علي ما أعتقد – وذهبت إلي الحمام الجديد النظيف في الصالة الجديدة النظيفة وهو ماجعلني أعتقد أنه لازال هناك أمل في هذه البلد. ولكن الشئ الغريب عند دخولي إلي الحمام أنه لم يكن هناك أي ورق تواليت موجود في الأماكن المخصصة لهذا الورق والتي تم وضعها بعناية وبأكثر من طريقة. فهناك ماكينة الورق الخاص بتجفيف اليد بعد الغسيل وهناك ذراع أخر لبكرة الورق داخل المرحاض ، ولكن لم يكن هناك ورق تواليت.

نعم هناك ماكينة وذراع الورق ولكن لم يكن هناك ورق .. !!

وفجأة يظهر اللهو الخفي وفي يده بكرة ورق ويقوم بقطع جزء كبير جدا منها دليلا علي كرمه معي والذي يجب أن أقابله بكرم مالي من ناحيتي . ويقوم اللهو الخفي بإعطائي الورق مصحوبا بإبتسامه وكلمات الترحاب المصطنعة مثل :

حمد الله علي السلامع يابيه .....

تروح وتيجي بالسلامه ياباشا .....

وبمجرد أن هممت بالخروج وجدت نفس الإبتسامة ولكنها مغلفة بنظرة حادة ومصحوبة بكلمات تحتوي في مضمونها علي صيغة أمر من قبيل :

أي خدمة ياباشا .. (أي أنه قد قام بعمل خدمة عندما أخفي الورق الذي هو بالمجان ليعطيه لك خصيصا وبدون طلب)

إن شاء الله ترجعلنا بالسلامة يابيه .. (نظرا لأنه قد يقوم بالدعاء عليّ إن لم أدفع له فتقع بي الطائرة)

لماذا لم يقوم المسئوليين عن تشغيل المطار بوضع سياسة إجراءات للتحقق من أن هذا العامل يقوم بعمله في نظافة الحمامات ومراقبتها وخدمة المستخدمين بدون وضع هذه السياسة القسرية المستفزة ؟

لماذا لم يتم تعيين مفتش خدمة يقوم بالمرور علي هذه الحمامات للتأكد من وجود مواد الإستخدام من الصابون والورق والتأكد من أن الأجهزة تعمل بكفأة وأن العاملين يقومون بدورهم وأنهم لايفرضون علي الركاب سياسة الذراع لتحصيل رسوم جبرية عن خدمة من المفترض أنها مجانية. وأرجو أن لا يقول لي أحد أن هذا سيكلف المطار أجرة هذا المفتش ..

إنني أؤكد لكم أن بالمطار الكثير من العمال الذين يقومون بأعمال غير مفهومة مثل هؤلاء الذين يقفون بجوار ماكينة تذاكر الدخول والتي كلفتنا الكثير من المال لتعمل أتوماتيكيا ولكنها وياللعجب لا تعمل إلا من خلال موظف يقوم بالضغط علي الزر وإعطائك التذكرة كنوع من توفير الرفاهية للشعب الذي لا يستطيع رفع ذراعه للضغط عل الزر ويحتاج لمن يقوم بهذا العمل المضني بدلا عنه. إذا لماذا لايتم تكليف هذا العامل بعمل مفيد مثل مراقبة سياسة الإجراءات بدلا من هذا العمل العجيب الذي لاأفهمه ولاأستطيع نفهمه حتي الآن ؟

لماذا .. ولماذا ... ولماذا

أسئلة كثيرة لاأجد لها إجابات إلا أن اللهو الخفي قد إستطاع أن يجد لنفسه واسطة كبيرة جدا تمكنه من تطبيق سياسة الذراع علينا وتمنع الآخريين من وضع سياسة إجراءات لتحمينا من هذا اللهو الخفي .. وحسبي الله ونعم الوكيل.

ليست هناك تعليقات: