الأحد، أبريل 11، 2010

5- الشحات العصري ........

لازلت أسبح في بحر ذكرياتي بالأسكندرية حيث نشأت ورأيت وتعلمت معني الجمال في الأشياء والأماكن والمعاملات بين الناس بل الجمال في الطلب وفي العطاء.

مر هذا بخاطري وأنا أتذكر منظر شحات مقيم بشارعنا . شحات مقيم لأننا أعتدنا رؤيته كل يوم وهو يسير في خط ثابت من أول الشارع إلي أخره ولديه محطات ثابته يقف عندها في أوقات معينه حيث يجلس وبجانبه زوجته وإبنه الصغير بدون إزعاج لأحد وبدون أن يتأفف منه أحد.
كان يجلس في المكان الذي إختاره هو بجوار أحد المحلات تاره وتارة أخري بجوار المسجد وكأنما قد عقد إتفاق غير مكتوب مع أصحاب المحلات يستطيع بمقتضاه أن يجلس أمام محلاتهم لبعض الوقت وبدون أن يحدث فوضي أو إزعاج لرواد المكان وأن لايتعرض لأحد منهم طالبا معونه أو مساعدة.

الشئ الغريب في الموضوع أن هذا الإتفاق الغير مكتوب كان ساريا ومعمولا به بمنتهي الهدوء والفعالية ولم يحدث يوما أن تذمر أحدا من أصحاب المحلات من صديقنا الشحات المقيم كما لم يحدث مرة أن حدث مشادة ولو كلامية بين الطرفين.

كان صديقنا الشحات المقيم يسير كل يوم في طريقه يمسك بطرف جلبابه الرث زوجته العمياء بينما يقودها هو مستندا إلي عصاه التي يقرع بها الطريق ليعلم الناس من حوله أنه هو أيضا أعمي فيفسحوا له الطريق. نعم لقد كان صديقنا الشحات المقيم أعمي يجر معه أعمي أخر وهم يعتمدون في طريقهم علي عصاهم التي كانت تقودهم وتسهل لهم طريقهم.

كان صديقنا الشحات المقيم مسالما وقنوعا جدا وعفيف اليد واللسان ، لايطلب من أحد المساعدة أبدا ... بل كان لايطلب المساعدة إلا من صاحب الأمر وكله ثقه أنه لن يبات أبدا بدون عشاء.

أكاد أسمع نداؤه اليومي المعتاد - الذي لم يكن يقول غيره أبدا – وهو يدوي في أذني. نعم أسمعه بنفس النغمة التي كان يقولها بها وبنفس الطريقة العفيفة القوية التي كان يستخدمها ليشعر الناس من حوله أنه لايستجديهم هم بل يستجدي صاحب الآمر ، بل أنني كنت ولازلت أشعر وكأنه يبعث لهم برسالة مفادها أنهم يجب عليهم مساعدته ليس لأنه يطلب منهم ذلك ولكن لإن ذلك هو أمر إلهي وأنهم إن ساعدوه فكأنما هم سبب في رزقه الذي لم يطلبه من الناس ولكنه كان وبكل قوة يطلبه من رب الناس ليكون هو بالتبعية دليل إيمانهم ومصداقيتهم مع الله.

إسمعوا إليه وهو يسير في خطي ثابته قصيره ذات دبيب وهو يقول بكل عزه ....

أنت المساعد .. يارب
ياربي أنت أعلم .....

لا إله إلا الله .... إن هذا الرجل البسيط الأعمي الآمي لم يكن لديه أي شئ ولو قوت يومه ولم يكن يعلم من أين أو كيف أو متي سيأتي له رزقه ولم يكن له أحد يمكن أن يتسلف منه أو يعتمد عليه وقت الحاجة ، ولكنه لم يكن أبدا ليذل نفسه لإنسان ولم يقبل أن يتدني بمستوي سؤاله ليتحول به إلي إنسان مثله وهو يبحث فقط عن أسباب معيشته لا أسباب رفاهيته ، يبحث عن قوت يومه لا ثمن سجائره وكان علي ثقه ... كل الثقه أن الله سيرسل له مايحتاجه .... فقط مايحتاجه لا مايريده وإن كان مايريده كثير ولكن عطاء الله أكثر.

ياسبحان الله ....

أنطروا معي الآن إلي شحات هذا العصر ... وهم كثير نراهم في اليوم الواحد أكثر من مره في أكثر من موضع بأكثر من شكل وكل منهم قد تفنن في إيجاد وسيلة يخاطب بها الناس من حوله يستعطفهم تارة وتارة أخري يستجديهم وفي أكثر الأحوال ................. يزهقهم.

كنت أقف بسيارتي في تقاطع أحدي الطرق وسط الزحام المعتاد – والذي أصبح من العلامات المميزة لهذه المنطقة – حتي وأننا كنا نفتقد هذا الزحام عندما نسير في هذا الطريق ليلا فنجد أكثر السيارات تقف قي صف ثاني وثالث لتخلق زحام إصطناعي لتحقق لنا ماإعتدنا عليه في نهار اليوم من زحام .... ولكن هذا ليس بوموضوعنا الآن.

أثناء إنتظاري في هذا التقاطع والسيارات تسيير بسرعة خمسة إلي عشرة كيلومترات في الساعة وجدت شحاتا عصريا يقف بجانب زجاج السيارة وهو يتمتم بكلمات غير واضحه ولأنني من هواة معرفة طباع البشر ، فقد قمت بفتح النافذة قليلا لأسمع مايقوله هذا الشخص الذي ألصق وجهه بزجاج سيارتي وجعل من البخار الذي يخرج مع أنفاسه يشكل علامة مائية علي زجاج السيارة الأمر الذي يستحيل معه إزالته إلا بغسيل الزجاج - إن لم يكن بتغيير الزجاج – وذلك حتي أستطيع أن أتذكر كلامه .. نفس .. نفس

كان طلب هذا الشحات العصري غريبا بعض الشئ ولكنه أصبح معتادا هذه الأيام وهو يطلب مني جنيهين ... نعم بالتحديد 2 جنيه ليستطيع شراء ساندوتش للغداء.

لقد حدد الرجل إحتياجاته حسب رؤيته وقرر فرضها علي من خلال وضع بصمة مائية علي زجاج سيارتي ليطلب بالتحديد 2 جنيه ثمنا لوجبة الغذاء التي قرر شرائها وبطبيعة الأمر ونظرا لأن الطريق كان يسير ببطء فإنني كنت بالتبعية أسير بسيارتي وأنا أستمع إليه مشدوها بعض الشئ ولكن بدون أي تعليق مني وهو يمسك بزجاج السيارة ويجري بجوار السيارة وهو يكرر نفس الكلام ولكن بنغمات مختلفة تزداد حدة كلما سرت أكثر بالسيارة.

الشحات العصري : 2 جنيه يابيه
أنا : لاتعليق
الشحات العصري : 2 جنيه بس أجيب بيهم ساندوتش .. ماكلتش من إمبارح
أنا : الله يسهلك
الشحات العصري : حرام عليك يابيه .. أنا ماكلتش من إمبارح
أنا : وحرام ليه بس يابني ..... الله يسهلك
الشحات العصري : موش حرام إنتوا تأكلوا وإحنا لأ ..... والنبي يابيه
أنا : ياعم قولتلك ... الله يسهلك ..
الشحات العصري : يابيه ... ماكلتش من إمبارح ... خلوا في قلوبكم شوية رحمة
أنا : إمشي يابني ... الله يسهلك
الشحات العصري : ربنا علي المفتري

نظرت إليه وقد عقدت الدهشة لساني ورحت أتذكر بل وأتحسر علي شحاتنا المقيم الذي كان بمنتهي الأدب لايطلب إلا من صاحب الأمر ولم أكن أتواني في أي مره أراه فيها أن أساعده ولو بالنذر القليل ولكن نظرة السعادة التي كانت ترتسم علي وجهه وهو يدعو لي بالبركة كانت توقد داخلي بركان من السعادة لايضاهيها إحساس إلا وأنا أعاود الكره مرة أخري لأعطيه مما أعطاني الله لأسد حاجته بالمال وأسد حاجتي في العطاء.

تري أين تكمن المشكله ؟

لإننا قد تشبعنا بفكرة أن مانحصل عليه ليس هو مانستحقه وأن الآخريين بالتبعية يحصلون علي أكثر مما يستحقون بدليل السيارة التي يركبونها والبدلة التي يلبسونها فقد تولدت لدينا الرغبة في زيادة حصيلتنا من المال بالسؤال المباشر تارة وبالتحايل علي القوانين تارة وبالبيع الجبري تارة أخري.

أنظروا حولكم لتروا الأولاد الذين يبيعون ليمون ومناديل ورق وحزم النعناع في التقاطعات وهم يصرون عليكم لتشتروا منهم ويتفنون في إيجاد الوسيلة تلو الوسيلة لإجبارك علي أن تشتري منهم سواء بالتذلل أو الإستعطاف أو قطع الطريق وفي الجهة المقابلة نجد منادي السيارات الذي أحتل جزء من الشارع ليفرض عليك إتاوة إنتظار وقد حدد لها تعريفة ثابته ندفعها جميعا صاغرين وبدون نقاش حتي نستطيع الحفاظ علي السيارة من بطش هذا الجبار إن نحن أغضبناه ولم ندفع له الإتاوة. والعجب العجاب تراه عندما تدخل إلي المطار أو البنك أو أي جهة حكومية لتجد في إنتظارك فرد أمن مبتسما وهو يرحب بك وكأن بينكم معرفة قديمة قوية ليقول لك حمد الله علي السلامة يابيه ويده ممدوده لك وكأنه يسلم عليك وطبعا السلام الأيام دي مختلف تماما عن سلام زمان

أنا لن أتحدث عن الموظف الذي يستغل منصبه للحصول علي إكرامية تتناسب مع حجم العمل الذي سيقوم به نظير إنهاء خدماته التي هي طبيعة عمله وسبب وجوده في هذا المكان. ولكنني أتحدث عن الآخريين الذين لم يتوفر لهم سطوة المنصب فقرروا هم بأنفسهم أن يوجدوا المكان والحدث وأن يتفننوا في إستحداث الوسائل التي تمكنهم من الحصول علي مايصدقون أنه حقهم في العيش في ظل وجود شخص مثلي يركب سيارة ويرتدي بذلة بل ويمسك في يديه أيضا بشنطة كمبيوتر محمول . إنهم هؤلاء الأشخاص الذين قرروا فرض أنفسهم ومطالبهم علينا عن طريق ثقافة الذراع فأعطوا لأنفسهم الحق في أن يستحلونا ونحن نجلس في الجهة المقابلة مٌستحَلين مستضعفين نلتمس لهم الأعذار ونحن نمصمص شفايفنا ونقول ............ لاحول ولاقوة إلا بالله

عندما قررت إنجلترا إعمار أستراليا التي إحتلتها لم تقوم بإرسال مهندسيها ومعماريها وقواتها ونبلائها فقط ، بل أرسلت أيضا مطاريدها ومسجونيها ومن هم بدون عمل ويعيشون عالة علي المجتمع لكي يصبح لهم مكان يعيشون فيه ويعمرونه ويقيمون فيه مجتمعهم بل ويتملكونه والذي قامت فيه الحكومة بوضع القوانين والنظم التي تحكم هذا المجتمع الجديد وفي خلال قرنين من الزمان أصبح هذا المجتمع هو أستراليا التي يهاجر إليها شبابنا الآن.

لماذا لانقوم بجمع هذه الجماعة من إخواننا الذين لم يسعفهم تعليمهم ولا ثقافتهم ولا إمكانياتهم لكي يجدوا مكانا فعالا في مجتمعنا ونرسل بهم إلي صحارينا – وهي كثيرة – ويتبني المجتمع المدني مسئولية إعداد وتأهيل المكان بينما تتبني الحكومة مسئولية إدارته التشغيلية والمالية ليزرعوا ويصنعوا ويعيشوا حياة كريمة حيث يكسبون رزقهم بذراعهم بدلا من أن يستخدموا هذا الذراع في ترويعنا وفرض مطالبهم علينا

لماذا نستسلم لهم ولمطالبهم ولأساليبهم التي هي يقينا غير شرعية ولانسألهم أن يستسلموا لمطالبنا الشرعية بأن يكونوا أناس فعالين في خدمة هذا المجتمع.

إن كانوا لايملكون القدرة علي تحقيق مطالبهم ، فإنني أعتقد أننا نملك العقل الذي يمكننا من مساعدتهم علي توفير حياة كريمة لهم وعمل شريف يقتاتون منه بل وأرض يعمرونها ويتملكونها في الآخير.

أنت المساعد ...... يارب

ياربي ...... أنت أعلم

ليست هناك تعليقات: