الأحد، أبريل 18، 2010

16 - وأخيرا .... ثقافة بالذراع


سؤال يفرض نفسه علينا ويحتاج لإجابة متأنية من كل منا :

هل لإننا نسير في منحدر فإننا حتما سننتهي إلي القاع ؟

هل المنحدر هو طريق يصل دائما بين القمة والقاع ومن سلكه سينتهي به الأمر إلي أن يقبع في القاع ومن سلك عكسه وتكبد مشاق صعود المنحدر هو في طريقه إلي القمة ؟

إنني أعتقد أن الكثيرين هنا يتفقون علي ماهية المنحدر وإتجاهه من القمة إلي القاع هندسيا ، ولكنني أود أن أخذكم إلي البعد الفلسفي في تفسير المنحدر ..

إننا عندما نكون متجهين في إتجاه المنحدر تزداد سرعتنا بفعل الجاذبية عن معدلاتنا أثناء الصعود كما أن زاوية الرؤية لدينا تتسع نظرا لإن إتجاه الرؤية لإسفل يتوافق مع إتجاه أجسامنا التي تتجه هي الأخري للأسفل عنه في الصعود والذي نحتاج إلي مجهود لنرفع رؤسنا إلي أعلي لنزيد من مساحة الرؤية لدينا.

أو بمعني أخر ، فإن الطريق المنحدر هو الأسهل لنا عن إتجاه الصعود العكسي حيث تكون أجسامنا ورؤسنا متوحدة مع إحساسنا بالإتجاه إلي أسفل ولانحتاج إلي إستخدام عضلاتنا لنرفع رؤسنا إلي أعلي. علي الصعيد الأخر فإن الإنحدار يزيد من سرعتنا وهو مايعطينا الإحساس الزائف بالمغامرة الأمر الذي قد ينسينا أننا نتجهه إلي القاع وأن إتجاه القمة خلفنا.

ولكن يظل السؤال قائما : هل الطريق المنحدر لابد أن يؤدي بنا إلي القاع ؟

لقد كنا ونحن صغارا نذهب إلي الملاهي لنركب المرجيحة التي نعمل بقوة لندفعها إلي أعلي ثم نستسلم لها وهي تتجه إلي أسفل حيث لانقوم بأي مجهود ونتركها تهوي إلي القاع ومن ثم تولد قوة دفع ذاتية لتصعد بنا مرة أخري إلي أعلي وهكذا دواليك.

أي أننا لكي نصعد إلي أعلي ، فهناك طريقان لاثالث لهما :

الطريق الأول : أن نقوم نحن بالمجهود ونولد قوة الدفع التي تأخذنا في عكس قوة الجاذبية لتصعد بنا إلي أعلي بشرط أن تكون القوة التي سنولدها أكبر من المقاومة التي تعوق طريقنا والمتمثلة في إرتفاع الطريق وشدة الميل والتي تتطلب قوة دفع إضافية وقت بداية الطلوع تتناقص بالتبعية كلما زاد الإرتفاع وقلت شدة المقاومة.

الطريق الثاني : أن نستغل طريق الإنحدار والذي يتولد عنه قوة دفع ذاتيه تزيد من إرتفاعنا بدون مجهود منا بشرط أن لانقوم نحن بتوليد مقاومة تعيق تقدمنا الذي إكتسبناه من شدة إنحدارنا.

لهذا ، فإننا نكون دائما مطالبين بإستغلال شدة الإنحدار كمصدر توليد طاقة دفع ترتفع بنا إلي أعلي مع بذل بعض المجهود كلما إتجهنا مرة أخري إلي أعلي لنصل إلي الإرتفاع الذي نريده. فقط تذكروا المرجيحة التي كنا نركبها ونحن صغارا لتصلوا إلي القناعة أن الإنحدار هو مصدر طاقة قد يصل بنا إلي أعلي فقط إذا ماحركنا أرجلنا حتي ونحن وقوف.

ولإن الحياة تسير بنا جميعا في مسار منحني متقلب بين الصعود والهبوط لايثبت أبدا عند نقطة واحدة ، بل أننا كلما زاد إرتفاعنا تأكدنا أننا في طريقنا إلي بداية دورة الهبوط مرة أخري ليس لتقاعسنا أو فشلنا ، ولكن لإن هذه هي طبيعة الحياة التي لاتثبت أبدا عند وضع ثابت من الإرتفاع أو الهبوط ولكنها دائما تتأرجح بين هذا وذاك.

والأمثلة كثيرة جدا علي الأمم التي وصلت في وقت من الأوقات لأن تتسيد العالم ثم أتي عليها الزمان لتصبح في طي النسيان ، ولكم في الأمم السابقة عبرة ياأولي الألباب.

هل لي أن أذكركم بقوم عاد وثمود الذين لم يخلق مثلهم في البلاد .... أين هم الآن وماذا حل بهم ؟

هل لي أن أذكركم بالفراعنة الذين أقاموا حضارة لازالت أثارهم شاهده عليهم إلي الآن .... أين هم الآن وماذا حل بهم ؟

هل لي أن أذكركم بدولة الفرس والروم الذين كونوا إمبراطوريات في أقاصي الأرض .... أين هم الآن وماذا حل بهم ؟

هل لي أن أذكركم بالإتحاد السوفيتي الذي كان القوة العظمي الثانية في العالم ..... أين هم الآن وماذا حل بهم ؟

وطبعا سيخرج علي البعض ليقول لي أن كل هذه الدول قد خرجت من ساحة النزال بعقاب إلهي لتَجبُرهم في الأرض ... ولن أعارض هذا المبدأ وإن كنت لازلت علي قناعة أن بزوغ نجم هذه الأمم وأفولها ماهو إلا إثبات للمبدأ الأساسي أن الحياة تسير بنا في مسار منحني بين الصعود والهبوط وأنه لايمكن لأحد مهما كانت قوته أو جبروته أو إمكانياته أو قدراته أن يستمر إلي الأبد في الصعود أو حتي في الحفاظ علي القمة ، ليس لضعفه أو إنهزاميته ولكن لإن هذا هو أساس الخلق الذي يجب علينا قبوله والعمل به. لن نظل قابعين في القاع حتي وإن عملنا جاهدين لنبقي تحت كما أننا لن نستطيع أن نحافظ علي الصدارة حتي وإن منعنا الأخريين من الإقتراب منها.

وحتي نكون أكثر واقعية ولايأخذنا الحديث عن الماضي إلي مسألة فلسفية يقبلها البعض ويرفضها البعض الآخر ، فإنني أذكركم هنا بما حدث من عشرين سنة فقط عندما كانت الكويت دولة أمنه يعمل بها الكثير من المصريين منذ عشرات السنين وقد إستطاعوا أن يكونوا ثروة من مجهودهم وتعبهم تقيهم شر الزمان . ولكن ماذا حدث ؟

بات إخواننا من المصريين وغيرهم من الجنسيات الأخري ليلتهم وكل منهم يمتلك في البنك مدخرات عمره التي عمل جاهدا لتكوينها وهو لايشك للحظة أن تكون هذه هي الليلة الأخيرة له مع ثروته ، ليصحو في صباح اليوم التالي ليجد نفسه وهو لايجد ثمن جالونات البنزين التي ستخرجه من نار الغزو ، يصحو ليجد نفسه وقد أخذ طريق المنحدر السفلي حيث ذهبت كل قوته المالية والوظيفية والإجتماعية أدراج الرياح.

فجأة وبدون أي مقدمات تبدل الأمر من شدة القوة إلي منتهي الضعف .......

فجأة وبدون مقدمات تبدل الأمر من أعلي المنحني إلي القاع .........

فجأة وبدون مقدمات أصبح المصري الذي لم يجد فرصه للسفر إلي الخارج ليحسن من وضعه ، هو نفسه من يعطف علي أخيه المصري الذي كان يملك بالأمس – الأمس القريب جدا – مايحسده عليه الكثيرين.



إنني لاأتحدث عن أقوام لم نراهم ولم نعايشهم مثل قوم عاد وثمود ، إنني لا أتحدث عن أقوام نري شواهد حضارتهم ولانعلم سر قوتهم مثل الفراعنة القدامي ، إنني لاأتحدث عن إمبراطوريات حاربها أجدادنا ولانعلم منهم إلا ماذكرته الكتب والسير مثل الفرس والرومان . إنني أتحدث عن إخواننا الذين عايشناهم ورأينا منحنيات صعودهم وهبوطهم رُأي العين.

إنني أتحدث عن تجربة رأيناها جميعا وعايشناها ، بل ولايوجد بيت عربي واحد يخلو من قصة أو مأساة حدثت له أو لأحد من أقربائه في هذا الحدث .....

نعم .... هذه هي الحياة بعض الوقت فوق إلي أقصي حد والبعض الآخر تحت إلي الحد الأقصي ......

وهو ماأعتقد أنه يماثل نظرية المرجيحة التي كنا جميعا نلعبها ونحن صغارا ، نقف في المرجيحة وهي ساكنه في إنتظار أن يدفعنا أحد ثم نبذل مجهودا في توليد قوة دفع لترفعنا إلي أعلي ثم ننتظر لحظات الهبوط لنستريح حتي إذا ماأقتربنا من القاع قمنا بالتحرك مرة أخري لتوليد قوة دفع إضافية لتعلو بنا مرة أخري إلي أعلي .... وهكذا دواليك حتي نهاية اللعبة.

فإن كنا نصدق أننا في طريقنا إلي القاع وأننا إقتربنا جدا من نهاية الهوة ، فإنني أعتقد أن شدة الإنحدار الذي سرنا فيه لابد وأن تولد فينا طاقة دفع يمكن إستغلالها لتعلو بنا مرة أخري إلي أعلي شريطة أن لانقوم نحن بتوليد مقاومة إعاقة لقوة الدفع الذاتية المتولدة عن شدة الإنحدار.

عندما نشكك في قدرتنا علي التغيير ....... فهذه هي مقاومة لقوة الدفع الذاتية

عندما نري أنه لايوجد حل .............. فهذه هي مقاومة لقوة الدفع الذاتية

عندما نستسلم لثقافة الذراع ........ فهذه هي مقاومة لقوة الدفع الذاتية

عندما نقبل أن نُستحَل ............. فهذه هي مقاومة لقوة الدفع الذاتية

إنني علي يقين أننا في طريقنا إلي أعلي لإننا قد قاربنا الوصول إلي أدني مستويات القاع في كل شئ .......

في الأغاني إنحدرنا حتي أننا أصبحنا نخاف علي أولادنا من الأغاني وكلماتها المتدنية وتصويرها الذي يخاطب الغرائز وألحانها التي لاتنم عن أي إبداع

في الرياضة إنحدرنا حتي أصبحت ملاعبنا ساحة قتال وتراشق تخبرنا عن قتل الروح الرياضية مع سبق الإصرار والترصد وأصبح ميلاد بطل أوليمبي كل عشر سنوات هو عيد قومي نحتفل به

في الصناعة إنحدرنا حتي أصبحنا لانبتكر أي منتج جديد ونكتفي فقط بتجميع مايبتكره الأخرين لنقوم ببيعه في أسواقنا وبمستوي جودة ....... حدث ولا حرج

في التعليم إنحدرنا حتي أصبحنا نبحث عن الطرق الشرعية وغير الشرعية التي تمكن أولادنا من الحصول علي أعلي الدرجات للإلتحاق بكليات القمة ولانبحث عن ماتعلمه أولادنا حقا

نعم إننا نجري في المنحدر بسرعة ولانستطيع إيقاف إنحدارنا لأننا بدأنا في فقد القدرة علي الإيقاف ، ولكن هذا لايعني أن نفقد الأمل في أننا نستطيع أن نعلو مرة أخري.

إننا الآن في أفضل وقت للصعود مرة أخري إذا نحن أردنا وإقتنعنا أن هذه هي سنة الحياة ، وأن الهبوط هو بداية أكيدة للصعود والترقي في دورة الحياة كما أرادها الله سبحانه وتعالي لبني أدم.

لإننا نسير نحو قاع الهوة فإن مساحة الرؤية لدينا تتسع بحيث نستطيع رؤية أدق تفاصيل الإنحدار الذي نحياه ونستطيع أن نري مشاكلنا عن قرب بل ونعيشها لتؤثر فينا وفي قرارتنا وهو ما لايكون متاحا عندما نكون في منطقة أعلي لإننا كلما زدنا في الإتفاع كانت حجم الرؤية لدينا أقل وهو ماتستطيعون تصوره لشخص ينظر إلي الشارع من الطابق العاشر حيث يري السيارة بحجم علبة الكبريت ولشخص أخر ينظر من الطابق الأول حيث يستطيع أن يري ويتعرف علي من يجلس داخل السيارة بل ويتحدث إليه إيضا إن أراد.

نعم ... إننا ننحدر متجهين إلي القاع ولكننا نستطيع الآن أن نري مشاكلنا عن قرب وأن نري تفاصيلها بمنتهي الدقة وأن نعرف حجم المخاطر التي تحيط بنا من كل جهة ومدي تأثرنا بها إن نحن إستسلمنا لها. وهو مايعطينا ميزة إتساع الرؤية للمشاكل وبالتبعية لإمكانية الحل.

دعونا نركب المرجيحة الآن ونقوم بالدفع بمنتهي القوة لإننا قريبين من القاع حتي نستطيع أن ندفع المرجيحة إلي أعلي مرة أخري وأن نبدأ دورة جديدة من الترقي قد تأخذ وقتا طويلا بحيث لايسعفنا الوقت لكي نستمتع بلحظة الوصول إلي القمة ولكن علي الأكيد أن أولادنا من بعدنا سيستطيعون جني مازرعته أيدينا.

لماذا يجد المتذرعون الموارد المالية والبشرية والفكرية لإنتاج قنواتهم الفضائية التي تعيث في الأرض الفساد ولانستطيع نحن توحيد جبهتنا لتوفير الموارد التي نحتاجها لإنتاج قنوات تتصدي لهؤلاء المتذرعين ؟

لماذا يستطيع المتذرعون إيصال أفكارهم إلينا عن طريق جريدة أو مجلة تحوي من توافه الأمور الكثير ولانستطيع نحن أن نرد عليهم ولو بجريدة واحدة تدفع بنا إلي أعلي ؟

لماذا يستطيع المتذرعون أن يفرضوا متطلباتهم علينا في موقف السيارات ومحطة البنزين ودورات المياه ولانقرر أننا لن نُستحَل بعد الآن وأننا لن نعطي إلا لمن يستحق ولمن يؤدي خدمة نطلبها لا خدمة هو يريدها ؟

ألف لماذا تدور في الأذهان ولكن الإجابة تظل واحدة ......

الآن ، والآن فقط يجب علينا أن نقرر أننا نرفض أن نُستحَل أكثر من ذلك وأن يبدأ كل من بنفسه وهو علي أتم القناعة أنه واحد صحيح وأنه يستطيع التغيير إذا أراد.

لاتقول أنك واحد علي ثمانين مليون لإن النتيجة ستكون سلبية عليك وعلينا وعليهم ، بل كن علي قناعة أنك واحد في ثمانين مليون حيث النتيجة هي بالأكيد ثمانين مليون.

عملية حسابية بسيطة ولكن نتيجتها مذهلة ..... إن كنت تستطيع إجرائها.

الجمعة، أبريل 16، 2010

15 - شيزوفرينيا .... شيزوفرينيا


من منا لايصدق في إنتشار ثقافة الذراع في عموم الشعب المصري سواء بالتطبيق أو بالإستسلام إلي التطبيق ؟

من منا لايشعر بمستوي الإنحدار الذي نسير فيه ونحن مغمضين أعيننا حتي لانري الهوة التي نحن إليها سائرون ؟

من منا لم يكتوي بنيران هذه الثقافة ولم يجلس في موضع المُستَحَل وهو يشعر بالخزي لما أوصلنا إليه أنفسنا ؟

إنني علي أشد القناعة بأننا جميعا ننظر من نفس النافذة لنري نفس المشاهد ونسمع نفس التعليقات ونكتوي بنفس النيران ، بل أنني علي أشد القناعة بإن كل واحد منا يستطيع أن يكتب مجلدا كاملا عن معاناته مع هؤلاء المتذرعين من حوله وهم يستحلون أدميته ومصريته ببرود يحسدون عليه.

منادي السيارات الذي يستوقفك وأنت خارج بسيارتك من الموقف وينظر إليك وكأنه يأمرك أن تعطيه المعلوم حتي تشعر بينك وبين نفسك أنه علي حق وإنك إن لم تدفع له فكأنما أنت تسرقه .......... إستحلال

عامل محطة الوقود الذي يتلكأ في تلميع زجاج سيارتك بعدما تنتهي من تعبئة سيارتك حتي يجبرك علي ترك المعلوم وبحيث أنه إذا لم يكن متوفرا لديك جنيهات فكة فإنك تعتذر منه وتضع وجهك في الأرض وأنت تفر من أمامه ..... إستحلال

عامل نظافة التواليت الذي يخبئ ورق التواليت المجاني ليعطيه إليك عند دخولك وكأنه يتفضل عليك ويعطيك من أملاكه لتجد نفسك مضطرا لأن تعطيه مالايستحقه عن خدمة لم يؤديها ........ إستحلال

سائق السيارة الذي يسير في مسار ثعباني متنقلا بين الحارات المرورية وكأن بحوزته صكوك ملكية هذه الحارات و هو يطالبك بالإبتعاد عن طريقه عندما ينظر لك نظرة مرات الأب إن أنت وقعت في مساره الأفعواني .......... إستحلال

من قام بركن سيارته في صف ثاني أمام سيارتك ليقضي مصلحة له علي عجالة ويطالبك بأن تنتظر حتي ينتهي بل وعلي إستعداد لإن يدخل معك في شجار لإنك لم تستطيع معه صبرا .......... إستحلال

عسكري المرور الذي ترك وظيفته في تنظيم المرور وأصبح يعمل في التفتيش علي المخالفات وتثمينها ...... إستحلال

المدرس الذي يقبل أن يدرس لخمسين تلميذا في مركز تعليمي ولايستطيع ذلك في المدرسة .......... إستحلال

الجزار الذي وصل بسعر الكيلو إلي ستين جنيها ولم يخاف أن تقل مبيعاته لإن الغنم كثير أكلين ومأكولين ............. إستحلال

والمهندس والطبيب والمحامي والترزي والمكوجي والحلاق ...... كٌلنا نستَحِل كُلنا.

كُلنا نجلس في نفس المقعد الذي أصبحنا لانملك غيره .... مقعد واحد يستحل فيه بعضنا البعض لكي نكون اليوم مُستَحَلين ثم نأتي غدا لنكون نحن المُستَحِلين.



كُلنا نستَحِل كُلنا.

كُلنا لانوافق علي كل ماذكرته بل ونحكي عن معاناتنا وتضررنا من هؤلاء الذين يستحلونا كل يوم ، بل كل لحظة في سبيلهم لكي يحققوا مايريدونه غير عابئين بنا ولا بإحتياجاتنا ولا بمكانتنا.

كلنا نشكو مر الشكوي من الحياة التي أصبحت صعبة وغير أدمية في مصر والحكومة التي لاتقوم بدورها والعشوائيات التي تحيط بنا وتفرض علينا ثقافتها والإعلام الذي يستبيح عقولنا ويلعب علي مشاعرنا ليفرض علينا مايراه ويملي علينا أفكارنا . بل أننا كُلنا نشكو الأخلاقيات التي تغيرت والقيم الإجتماعية الجميلة التي أصبحنا نفتقدها في هذا الزمن المسخ.

كُلنا نرفض كلنا .....

كُلنا نشكو كلنا ......

كُلنا نستَحِل كلنا .....

ولكن أين نقبع نحن ؟ أين نجلس ؟ ماذا نشاهد ؟ كيف نري ؟

لقد تحولنا جميعا فجأة إلي معلقين علي المباراة يجلس كل واحد منا في كابينة التعليق ويفتح الميكروفون ويبدأ في التعليق علي الأحداث حسب رؤيته وإنتماؤه ومزاجه الشخصي وقت التعليق . ولكن مكمن الكوميديا هنا أنه لايوجد فريق يؤدي ولايوجد لاعبين في الملعب ولكن يوجد جمهور كبير جدا من المعلقين الذين لم ينتبهوا إلي أن الملعب أصبح خالي من اللاعبين وأخذتهم الحماسة ليعلقوا علي بعضهم البعض بحيث يجلس كل معلق منا وهو ينتقد أرضية الملعب والقائمين علي الصيانة والصوت العالي للمعلقين الآخريين وشاشة الإستاد التي لاتعمل وباب الكابينة الذي لايستطيع إغلاقه وزحام الطريق بالخارج ولكي يستكمل المشاهد الإبداعية فلابد من ذكر ماكان يحدث زمان عندما كنا نفعل كذا وكذا ...... وكذا .........وكذا ..........

نعلق علي الأحداث وننسي أن هناك مباراة يجب أن تُلعب وأن لكل منا دوره في هذه المباراة وأنه لايصح أبدا أن نجلس جميعا في نفس المقعد ، في نفس الجهة ، في نفس الإتجاه لنري جميعا مايحدث أمامنا ولانري مايحدث خلفنا .

هل تستطيع أن تري مايحدث خلف ظهرك ؟ بطبيعة الحال لايمكن لأحد منا ذلك إلا إذا وضع أمامه مرأة ليري فيها مايحدث خلفه وإن كان سيري كل شئ بالمقلوب بحيث أن اليمين في الصورة هو اليسار في الأصل

ولكني أعتقد أن الطريقة الصحيحة لرؤية مايحدث خلفنا هو أن نجلس في صفوف متقابلة بحيث يستطيع كل صف رؤية مايحدث أمامه والذي هو خلف الجهة المقابلة وأن نقوم بتعزيز الثقة بيننا حتي نصل فيها إلي المرحلة التي تؤهلنا لإن نتقبل رأي الذين يقفون أمامنا وفي عكس إتجاهنا لا لإنهم أهل ثقة ولا لإنهم يدينون لنا بالولاء ولا لإنهم يتفقون معنا في الرأي ولكن لإنهم يرون مالانراه وهو مايعني في المقابل أننا أيضا نري مالايرونه.



إن شدة الكوميديا التي نحياها ونعيش بها والتي لاتضحكنا ولكن للأسف أنها قد تبكينا أننا جميعا نرفض ثقافة الذراع وهذه الأساليب التي يتبعها الآخريين ونراهم جميعا وهم يدمرون مصرنا العزيزة بإصرارهم علي أن يستحلونا ويسحلونا. ولكننا لاننظر إلي أنفسنا لنعرف إن كنا نحن أيضا منهم أو إن كنا قبلناهم وقبلنا فكرهم بل وطبقناه سواء بقصد أو بدون قصد لنصبح نحن أيضا من المتذرعين.

إنها حالة عامة من الإنفصام التي نحياها جميعا بدون ضجر أو إستغراب منا جميعا .....

كلنا نلبس قناع المعلق الذي يري أخطاء الأخريين ويرصدها ويعلق عليها ويقارنها بالزمن الجميل ، وتأخذنا شهوة التعليق وتصاعد الأحداث لننسي أن ننظر لأنفسنا ونعلق علي حالة الشيزوفرينيا التي وصلنا إليها لإننا وببساطة جدا نتذرع علي الأخريين أو نقبل أن يتذرع علينا الآخريين ولكننا نجد لأنفسنا دائما الأسباب التي تقنعنا بسلامة موقفنا – موقف المضطريين في أغلب الأحوال – وإن كنا لانقبل هذه الأسباب للآخريين.

لقد وصلت الكوميديا مداها عندما قبلنا أن نتضرر من الآخريين الذين يؤرقون مضاجعنا بإستحلالهم لنا ونسينا أننا نحن أيضا بدافع الإضطرار نقوم بما يفعله الأخريين بدافع الإستحلال. نعم إنها قمة الكوميديا السوداء التي لانملك معها إلا الضحك حتي البكاء علي ماوصلنا إليه مُستحَلين و مُستحِلين.

لقد قمت هنا بعرض بعض المواقف التي نتعرض لها جميعا في حياتنا اليومية وتجعلنا نفقد الأمل في الإصلاح لهذا البلد الآمن – سواء رضينا أو أبينا – وتعطي كل واحد منا الذريعة لكي يشكو البلد والقائمين عليها وأخلاقيات الناس والتعاملات بل وتعطي شبابنا الحجة لكي يهربوا في مراكب بالية - يغرق معظمها – لكي يذهبوا إلي أوروبا والدول المتقدمة ، ولكنني أود أن تذهبوا بفكركم إلي أبعد من هذا .......... بعيد عن نظرتكم لما حولكم

إذهبوا إلي داخلكم ....... إلي أغوار أنفسكم .......... إلي أعماق شخصيتكم

من منا يسير في الحارة المرورية المخصصه له ؟ وطبعا ستقولون أنه لايوجد حارة مرورية ولايوجد خط أبيض فاصل في معظم طرقنا ، ولكن من منا يصر علي السير في طريق مستقيم واضح ومحدد له – حتي وإن لم تقم الحكومة بتحديده بخط أبيض - بدون أن يجور علي من حوله .

من منا يصر علي أن يقضي مهامه بدون الإستسلام لطالبي الإكراميات والقهوة والشاي والفطور والغداء؟ وطبعا ستقولون أنكم لن تتمكنوا أبدا من إنهاء معاملاتكم بدون هذه الأساليب والمقننات الإجتماعية الإلزامية ، بل إن البعض منا قد يذهب إلي تكليف أشخاص أخريين لإنهاء هذه المعاملات وتولي مقنناتها وكأنه بهذا قد ألقي بتبعتها من علي كاهله ، ويبقي السؤال عن قدرتنا علي أن نسير في طريق مستقيم واضح محدد له بدون أن نجور علي حق أحد أو أن نسمح لأحد أن يجور علي حقنا.

من منا يقف في الطابور ؟ وطبعا سأجد الكثيرين منا يجيب أنه يقف إذا أضطر لذلك ، ولكنني أسأل عن من يقف في الطابور ليس لإنه مضطرا ولكن لإن هذه هي القاعدة ، عن من يقف في الطابور وهو لايشعر بحرج في ذلك ولايتململ من الإنتظار ولايمني نفسه بأن يهبط عليه طائر الرخ لينتشله من وسط هذا الطابور ويضعه في المقدمه لينهي معاملته.



من منا لايري السوء في مجتمعنا ؟

ولكن من منا يعمل بصدق وأمانه علي أن يغير نفسه أولا قبل أن يطلب من الآخريين أن يتغيروا .....

من منا يصدق أنه هو بذاته ثقل في هذا المجتمع حتي وهو فرد واحد وسط ثمانين مليون ، قد تكون النسبة خيالية للبعض ولكنها في علم الحساب نسبة صحيحة يمكن إستخدامها في معادلات حسابية وتؤدي إلي نتائج صحيحة.

نعم واحد من ثمانين مليون هي نسبة يتم قبولها بشرط أن تكون صحيحة ، بشرط أن تكون خالية من الشيزوفرينيا ، بشرط أن يكون الواحدمنا هو واحد صحيح إذا قسمت عليه أي رقم كان الناتج هو رقم صحيح أيضا. فالواحد الصحيح هو الرقم الوحيد الذي يعطي ناتج ضربه أو القسمه عليه رقم صحيح.

دعونا نخرج من حالة الشيزوفرينيا التي تسيطر علينا ، دعونا ننظر إلي داخلنا لنري كم التذرعات التي نقوم بها ونقبلها من أنفسنا حتي نستطيع إذا رأيناها في غيرنا وتألمنا منها أن نعرف كم الألم الذي نسببه لمن حولنا.

دعونا نقف معا واحد صحيح بجانب واحد صحيح لنكون معا فريق الأمل ، لنبدأ معا أول طريق الإصلاح بشرط أن لانفقد الأمل لأنه لن يفيدنا أبدا أن نري الطريق وقد سُد علينا وأنه لايوجد مخرج من هذا النفق المظلم وإلا سنكون قد أوصلنا أنفسنا إلي مانحن فيه الآن من الإستسلام لما هو كائن وقبولنا أن نُستحَل وتعايشنا مع الثقافة التي لاتريد منا فقط إلا قبولها.

إن كنت لاتعلم قدرك ولا قدراتك ، فإعلم أن الله لن يحاسبك علي مايفعله الآخريين من صلاة وصيام ومايفعله البعض الآخر من سيئات ومعاصي ، ولكنك ستحاسب علي أفعالك وقناعاتك ودروك في خدمة مجتمعك . فلاتلقي بالتبعية علي الآخريين لأنهم أوصلونا إلي ماوصلنا إليه وتنسي أنك أنت أيضا مطالب أن تبدأ دورك ولو بنفسك ولنفسك في الإصلاح وأن تقبل أن تكون واحد صحيح يفعل الصحيح ولايقبل إلا الصحيح

إذا عزمت علي التصحيح ، فإبدأ ولو بنفسك لتكون أنت نفسك ..... واحد صحيح.

الأحد، أبريل 11، 2010

14 - لما ولادنا .... يربونا


عودة إلي الإسكندرية الجميلة والتي لاأشعر بالجمال إلا وأنا أشاهدها ، بل أنني أستشعر معاني الجمال عندما أسمع إسم الإسكندرية أثناء حديثي مع الأصدقاء أو إذا ذكر في برنامج إذاعي أو تلفزيوني

لا أتحدث هنا عن الجمال الذي نشاهده في لوحة فنية أو منظر طبيعي خلاب ، ولكنني أتحدث عن جمال المعاملات .. جمال القيم .. جمال الأخلاقيات ... أو في المجمل ..جمال الناس

أعلم تمام العلم أنكم تروني منحازا لمدينتي التي تربيت بها وهو ما لاأنكره ، بل وأؤكده لكم

فكل منا ينحاز بطبيعته البشرية إلي حيث نشأ وترعرع وتعلم مبادئ الحياة والمعاملة وإحترام الأخريين . ينحاز بطبيعته البشرية إلي الفترة التي كان يعيش فيها سنوات برائته وطفولته . ينحاز بطبيعته إلي الفترة التي لم يكن يحمل فيها الهموم لإن عائلته كانت كفيلة بحمل همه وكان كل همه وقتئذ أن يعيش حياته ويستمتع بها في ظل إحترامه للأخريين وإحترام الأخريين له.

كان أبي ولازال – أطال الله في عمره – مدرسة خاصة في تربية الأولاد لها مناهجها الخاصه بها وكان يقوم هو فيها بدور الناظر والمدير والمدرس والمحاسب. كانت له فلسفته في التربية والتي كنا ونحن أطفال نرفضها ونجدها سياسة تعسفية لأنه يجبرنا علي أن نكون رجالا ونحن لازلنا صغارا.

كان أبي مثل كل أباء عصره وهذا العصر أيضا يقوم بإعطائنا مصروفنا اليومي أثناء الدراسة والذي كنا نراه دائما لايكفي متطلباتنا تماما كما يراه أبنائنا الأن وإن كنا ندفع لهم مائة ضعف ماكنا نحصل عليه عندما كنا في نفس أعمارهم مع إحتساب فرق العملة و نسبة التضخم وزيادة الأسعار .. وما إلي غير ذلك من مفردات العولمة.

ولكن أبي كانت له سياسة مختلفة إذا مادخلنا في فصل الصيف والأجازات حيث كان المصروف الذي نأخذه يتم صرفه بالكامل أثناء ذهابنا إلي النادي أو إلي مقابلة أصدقائنا في السينما أو أثناء التمشية علي الكورنيش أو في محطة الرمل لإنه لم يكن متوفرا في هذا الوقت المولات المغطاة المكيفة. كان أبي يفرض علينا في إجازة الصيف أن نعمل معه في مصنعه إذا ما أردنا الحصول علي المصروف بحيث لانأخذ مصروفا ولكن نأخذ راتب أسبوعي كما الرجال.

ولأنني كنت مختلفا قليلا عن إخوتي الذين كان يسعدهم العمل مع أبي والتمتع بخصوصية أصحاب العمل ، فإنني وبعد تجربة العمل مع أبي لم أجد نفسي في هذا المجال أو المكان ولكن بطبيعة الأمر لم أكن أستطيع تغيير سياسة أبي. لذا فقد قررت أن أقبل متطلبات وإشتراطات الوضع الراهن وذلك بأن أعمل لكي أحصل علي الراتب الذي يكفي متطلباتي ولكن في مكان أخر بعيدا عن أبي.

ووافق أبي علي طلبي وإن كان قد حذرني من التعب الذي سألاقيه في العمل عند الغير ووضح لي في جلسة أبوية أنه يوافق علي عملي عند الغير ليس لإنني في إحتياج مادي ولكن لإنني في إحتياج تربوي .. وقبلت التحدي

وذهبت للعمل في مطعم شهير علي كورنيش الإسكندرية وأنا في سن العاشرة ... وكم كانت التجربة مشوقة ومثيرة ومؤثرة. بل أنها كانت تجربة مليئة بالمعاني التي أكافح الآن لأغرسها في أولادي.

لقد أرست هذه التجربة بداخلي في وقتها معاني لم أفهمها إلا الآن.

معاني الرجولة ...

معاني المسئولية ...

معاني الإجتهاد ...

معاني الإعتماد علي الذات ...

معاني إحترام الأخريين ...

معاني كثيرة غرسها أبي بداخلي عندما كان يصر علي أن أتحمل المسئولية وأنا لازلت إبن العاشرة وأن أعمل بجد لكي أكسب ماأقضي به إحتياجاتي وأن تكون متطلباتي وفق قدراتي المالية وما أجنيه من أموال لا وفق قدرات أبي وما أستطيع أن أخذه منه بطريقة أو بأخري.

أشكرك ياأبي علي كل مافعلته من أجلي وإن كان درسك الأول لي في حياتي بأن دفعتني لإن أكتشف نفسي وقدراتي كافي لإن أظل أشكر لك طول عمري حتي وإن إختلفت معك في الكثير ولكن القليل الذي أعطيتني إياه هو كثير .. كثير... كثير.

لقد علمني أبي بقصد أو بدون قصد أنني لاأستطيع أبدا أن أطلب إلا ماأستطيع تدبر ثمنه وأن الأموال التي أجنيها لاأستطيع صرفها كلها في شراء شئ واحد أريده ولكن يجب علي أن أتدبر أمري لأستطيع شراء أشياء كثيرة قد أحتاجها في أوقات لن يكون معي ثمنها. لقد كان الدرس الأول قويا وفعالا ، عندما علمني أبي أن أفرق بين إحتياجاتي ومتطلباتي وأن لاأنساق وراء متطلباتي اللحظية عندما أملك ثمنها لأستطيع توفير إحتياجاتي عندما لايتوفر لدي تكلفتها.

في يوم من الأيام جائني موظف يعمل معي في الشركة وبدأ في بث شكواه من المواصلات والمشوار البعيد وإضطراره لإنتظار الميكروباص إلي مايزيد عن النصف ساعة غير المدة التي يقضيها الميكروباص في تنزيل الركاب وتحميل غيرهم. وإنتهي موظفنا العزيز أنه يحتاج لشراء سيارة صغيرة حتي يتمكن من الإلتزام بمواعيده ويرحم نفسه وأهله من عذاب المواصلات ، وأنه قد إستطاع بكثير من التدبير توفير مبلغ من المال يمكنه من دفع مقدم للسيارة ويطلب بعض المساعدة المالية والفنية في إنهاء هذا الآمر الذي ينغص عليه حياته.

وقد تفاعلت جدا مع هذا الشاب المكافح الذي يعمل جاهدا علي التعامل مع ظروفه بكثير من الحكمة ...... طبعا هُراء.

عرضت علي هذا الشاب المكافح أن أقوم بإستكمال المبلغ المطلوب لشراء سيارة صغيرة مستعملة وذلك بأن أدفع مبلغ مساوٍ لما يملكه وهذا المبلغ مجتمعا سيكفي لشراء هذه السيارة والتي يستطيع أن يتعلم فيها سياقة السيارات وذلك حتي يستطيع أن يتدبر مبلغ أخر وحينئذ سيتمكن من شراء سيارة أخري حديثة .. وهكذا دواليك.

ولكن المفاجأة ككثير من المفاجأت التي قابلتني وقابلتكم في هذا الكتاب هو أنه طلب أن يأخذ المبلغ الذي سيتم تجميعه ليدفعه كمقدم سيارة بضمان الشركة علي أن يقوم بسداد الأقساط الشهرية لمدة خمسة أعوام. تصوروا أنه لكي يحقق متطلباته من أن يكون له سيارة حديثة موديل السنة مثل فلان وعلان فإنه قد قرر أن يضع إحتياجاته المستقبلية هو وعائلته وأولاده ومدارسهم وعلاجهم ومأكلهم ومشربهم وملبسهم تحت رحمة إنسياقه لتحقيق هذا الطلب. إن كل مايحتاجه الآن هو سيارة صغيره ترحمه هو وعائلته من المواصلات وشرها ، كما أنه لايملك حتي المال الكافي لشراء هذه السيارة وقد جاء ليتسلف باقي قيمة هذه السيارة ولكن بقدرة قادر تولدت لديه الفكرة الذراعية الغريبة في وضع المبلغ الذي تسلفه حالا كمقدم لسيارة لايحتاجها بل يتمناها ويضع علي عاتقه أقساط شهرية بجانب المبلغ الذي تسلفه.

دعوني أزيدكم من الشعر بيت ....

عندما واجهته بموقفه الغريب هذا وأن فكرته لاتروق لي وأنه يجب عليه أن يفكر بعقله في إلتزاماته الحاليه وماينتظره من إلتزامات مستقبلية لايتوقعها ، كان رده الأغرب ... خليها علي الله ياباشمهندس

وهل كان هناك شئ قبل ذلك أو بعد ذلك علي أحد أخر غير الله

إنها نفس الثقافة اللعينة التي تشكل حياتنا الآن وتجعلنا نلهث وراء متطلباتنا بغض النظر عن إمكانتنا وننسي مع الوقت أن تأمين إحتياجاتنا التي تلزمنا أهم بكثير من توفير متطلباتنا التي نتمناها.

هل أساء أباء هذا الزمن تربية أولادهم للدرجة التي جعلتهم لايستطيعون ترتيب أولوياتهم وتجرفهم إغراءات المتطلبات وتقليد الأخريين والتحول من الطموح المشروع إلي الطمع الغير مشروع ليضعوا أنفسهم قبل الجميع ولايستطيعون إنتظار أحد بل ويتوقعون أنهم لهم الحق في المرور من الجميع في سبيل تحقيق إحتياجاتهم

عندما أذهب إلي الساحل الشمالي في الصيف وأري الأولاد الصغار والشباب الذين هم أمل هذه البلد وهم يجلسون في المقاهي ليدخنوا الشيشة - والتي يصل سعرها إلي أزيد من عشرين جنيه – وهم يتسامرون حتي ساعات الصباح الأولي وعند الحساب يقوم كل واحد منهم بدفع مالايقل عن خمسين جنيه ، أتذكر عندما كنت في مثل سنهم وأنا أذهب إلي العمل منذ الصباح وحتي منتصف الليل وأنا لا أشعر بالتعب بل أشعر بالفخر لإنني إستطعت أن أتغلب علي متطلباتي وأن أضع أولوياتي فوق شهواتي وأن أقضي وقتي في شئ يفيدني ويجعل مني رجلا.

كنت جالسا في إحدي الكافتريات الصيفية المنتشرة في منطقة الساحل الشمالي وبجانبي تجلس عائلة كبيرة تضحك وتتسامر بصوت مسموع لنا كلنا وأعتقد أن صوتهم لم يكن يضايقنا مثل أنه لم يكن يضايقهم نظرا للقصص الظريفة التي كانوا يحكونها فيما بينهم والتعليقات التي تصاحبها والتي لم تكن تخلو من بعض الإسقاطات الظريفة.

ونحن جالسين مستمتعين بالجوار ، إذا بشاب جامعي يدخل علينا ببنطاله الذي يكشف ملابسه الداخلية ويتجه إلي الرجل الوقور الذي يجلس بمنتصف الطاولة وهو يلقي فقط بالتعليقات علي مايقال وبشكل جادي ساخر. وقف الشاب بجوار الرجل الوقور وبدأ في الحديث بصوت مسموع لنا كلنا:

الشاب : هاي داد

الأب : هاي ياسيدي

الشاب : أنا رايح مارينا حأقابل أصحابي هناك

الأب : طيب ياسيدي

الشاب : كنت عايز مفتاح عربيتك علشان فيه خمسة من أصحابي جايين معايا

الأب : ليه بقي ياسيدي .. أومال فين عربيتك

الشاب : ماهي موش ممكن حتقضينا كلنا وبعدين مانت عارف إن النور اللي قدام فيه مشكلة

الأب : وماصلحتهوش ليه بس يابني

الشاب : ماهو صالح السواق ماكانش فاضي النهاردة

الأب : طب ومارحتش ليه صلحته بالنهار ده موش حياخد منك ربع ساعة

الشاب : واط أر يو ساينج داد (بتقول أيه ياوالدي)

الشاب : أروح فين وبعدين أنا ماعرفش بيتصلح إزاي ده

الأب : ياسلام .. تروح عند الكهربائي وتخليه يغير لمبات الفوانيس اللي قدام .. مشكلة كبيرة دي

الأم : خلاص بقي يا بابي .. إديله العربية وبكرة لما ييجي صالح يبقي يروح يصلحها.

الأب : إتفضل ... شباب أخر زمن

الشاب : طب إيدك بقي علي تلتميت جنيه

الأب : ليه هوه إنت عازمهم والا أيه

الشاب : داد .. إحنا رايحين الحفلة وبعدين حنطلع نقعد في أي كافيه

الأب : إتفضل ياسيدي بس ماتنساش تحط بنزين وألا عايز صالح كمان يحطلك بنزين

الشاب : لا موش للدرجة دي .. أي كان دويت ( أنا أقدر أعملها) بس أيدك بقي علي ميتين جنيه كمان علشان البنزين

الأب : إتفضل .. وماتتأخرش

الشاب : حاخلص وأرجع علي طول علي أربعة .. أربعة ونص ، سي يو جايز (أشوفكم بقي ياجماعة)

الأم : تيك كير ياحبيبي ( خد بالك ياحبيبي)

هل يمكن أن يقع كل هذا الإختلاف بين طبائعنا التي تربينا عليها وبين مافرضته علينا ثقافتنا الجديدة ؟

إنني علي أتم القناعة أن هذا الأب وكل الأباء من جيلنا والأجيال السابقة لن يختلف أسلوب تربيتهم عن ماتربينا كلنا عليه وأن أبي هو نفس الأب لكل جيلنا لإن ثقافتنا وقتها كانت متماثلة وطرق التربية التي كانت متبعة وقتها كانت مبنية علي إحترام الذات والإعتماد علي النفس وكان كل أب يفخر بأبنه الذي يستطيع أن يقوم بأعماله بنفسه ويعتمد علي نفسه في أداء فروضه المنزلية وبدون الإحتياج إلي دروس خصوصية.

كان أبي يفاخر أصدقاؤه بأنني أتممت دراستي بدون أن أخذ درس خصوصي واحد وكنت أفاخر أصدقائي بأن أول سيارة إشتريتها في حياتي كانت وفق المبدأ الذي وضعه أبي بالإعتماد علي الذات وذلك بأنني قد وفرت نصف ثمنها من عملي ومكافأة منه قام هو بإستكمال النصف الثاني.

لقد قام أبي بتربيتي علي الأعتماد علي النفس وأن الرجولة هي أن أقوم بعمل كل ماأستطيع عمله بنفسي لا أن أتكل علي أحد حتي ولو كان السائق الذي يعمل لدينا أو الموظف الذي يعمل بشركة أبي. لهذا كنت أستشعر معاني الرجولة في كل تصرف أقوم به وكنت أشعر بالمسئولية تجاه الأخريين قبل نفسي

لقد إستطاع أبائنا أن يربونا وأن يزرعوا فينا معاني كثيرة صنعت منا رجالا يُعتمد عليهم وهم لازلوا صغارا وتم تطعيمنا بلقاح ضد الثقافات الهدامة. ولكن يبدو أن هذا اللقاح كان يجب أن يؤخذ علي فترات متعاقبة علي مر السنين حتي يستطيع التأثير علي فيروس ثقافة الذراع التي إنتشرت بيننا ، ولهذا نجد بعضنا وقد تحصن بلقاح التربية السوية والبعض الأخر وهم كثير قد ضعفت مقاومتهم وتحول اللقاح من مصل مضاد للفيروس إلي ذّريعة صغيرة بدأ منها المرض.

إن الفارق بين اليوم والأمس أنه بالأمس كان أباؤنا هم من يقومون بتربيتنا وفق قواعدهم ومناهجهم وفلسفتهم ، أما اليوم فإن أولادنا هم الذين يربونا وفق متطلباتهم وقدرتهم علي أخذ مايريدونه منا بالدلع تارة وبالمحايلة تارة أخري وفي كثير من الأحيان بخضوعنا وإستسلامنا للثقافة الجديدة التي تمكنت منا وحتي لانصبح أباء مودرن ولأن الدنيا كلها ماشية كده. ولا أيه يا .. داد

هل تم إختصار التربية الآن في أن يتكلم أولادنا لغة أجنبية بطلاقة ؟

هل أصبحت دلالات التربية الآن هي فيما يلبسه أولادنا وفي النوادي التي يرتادونها وفي كم المصروف الذي يأخذونه ؟

هل التربية الحقة هي في العطاء بدون حد أم في المنع المشروط ؟

قبل أن نعود أولادنا سياقة السيارات ، علينا أولا أن نعودهم علي إحترام المرور والطريق وحق الآخريين ، بل أنه علينا أيضا أن نعلمهم أن يعملوا ويكسبوا رزقهم ويوفروا منه لشراء السيارة التي يستطيعون شرائها لا التي نوفرها نحن لهم.

قبل أن نعود أولادنا علي طلب مايريدونه ، يجب علينا أن نعلمهم متي يمكنهم الطلب وكيف يمكنهم تحقيقه بأنفسهم لا عن طريق طلبهم فقط لما يريدونه بل عن طريق العمل بأنفسهم علي تحقيقه.

قبل أن نطلب منهم أن يكونوا رجالا ، يجب علينا أن نعلمهم أولا.... كيف يمكن أن يكونوا بحق ...... رجالا.

13 - من فوق ... لتحت


من فوق برج خليفة في دبي .. أعلي برج في العالم ، شاهدت دبي كما أرادها أميرها الشيخ محمد . وكم أنت مذهلة يادبي ..

عندما تذهب إلي دبي تأخذك روعة البناء وحداثة التصميم وتكامل النظام الذي إستطاع في وقت قليل جدا أن يجمع بين كل التفاصيل الإنشائية والمالية والإستثمارية لتخدم التفاصيل الحياتية وتشجع المستثمرين علي ضخ إستثماراتهم في هذه الإمارة التي كانت صغيرة منذ فترة ليست ببعيدة ولكنها وبقدرة قادر أصبحت عاصمة للتسوق والإستثمار العقاري والسياحة والتجارة والمؤتمرات .... عاصمة للمتعة والإستمتاع

عندما تذهب لدبي تأخذك براعة المصمم الذي إستطاع أن يضع علي الورق كل هذه الأفكار التصميمية والمخطط الذي إستطاع أن يضع الخطط التنفيذية لتنفيذ هذه الأفكار التصميمية والمنفذ الذي إستطاع في وقت قياسي أن يجعل هذا الورق حقيقة نراها ونعشقها ونحلم بها ولانملك إلا أن نقول .... سبحان الله

من فوق برج خليفة وقفت علي إرتفاع حوالي الثلاثة أرباع كيلومتر لأشاهد دبي من فوق ... فوق جدا ... جدا

إن دبي من هذا الإرتفاع أكثر جمالا بل وأكثر جاذبية عن مانشاهده ونحن نسير في شوارعها . دبي من فوق كانت تماما كما تم رسمها من قبل المصممين الذين لم يتخيلوا هم أنفسهم أن تصاميمهم التي تفننوا فيها سيتم وضعها بهذه الصورة المذهلة وبهذه القوة التنفيذية التي وضعت كل خط تم رسمه علي الورق في مكانه لتكون المدينة مجسم كبير لمخطط تم رسمه بمنتهي الدقة وتم تنفيذة بمنتهي الإتقان.

عندما كنت أسير علي هذا الإرتفاع الشاهق فوق برج خليفة أشاهد من حولي النوافير الراقصة والمباني ذات الأضواء المتلألئة والألوان الخلابة وحيث السيارات تسير في الشوارع بنظام بالرغم من الزحام والحدائق التي يزينها خطوط من الزروع والورود من كل شكل وحجم ولون ، لم يكن يشغلني كل هذا الجمال الذي أخذ عقلي لبرهة وأنا أسبح الله علي هذا الجمال وهذه الدقة في التنفيذ . ولكنني في حقيقة الأمر كنت مشغولا وبشدة في شئ واحد ظللت أبحث عنه في كل ركن من أركان البرج محاولا إيجاده أو فهم كيف يمكن إخفاؤه.

إجتهدت كثيرا وبحثت كثيرا عن الأطباق التي يتم تثبيتها فوق سطح البيوت عندنا في مصر لنتمكن من مشاهدة القنوات الفضائية. أحضرات نظارات مكبرة وحاولت إستخدام كاميرات التصوير الفوتوغرافية وكاميرات تصوير الفيديو لكي أتمكن من معرفة أماكن تثبيت هذه الأطباق اللعينة أو لحل لغز إختفائها ... ولكنني للأسف لم أستطيع

ذهبت إلي الفندق وتوجهت إلي مكتب الحجز مباشرة لأسأله : هل لديكم قنوات فضائية في هذا الفندق السبع نجوم ؟

وطبعا أجابني مسئول الإستقبال أنه لديهم مايزيد عن خمسة وأربعين قناة ثابتة خلاف القنوات المدفوعة مقدما وهو مايعني أنه لابد أن يكون لديهم عدة أطباق حتي يتمكنوا من تثبيت هذا العدد من القنوات . إذا أين هو هذا الطبق اللعين ؟

أعتقد أنكم قد بدأتم في التشكك في قواي العقلية الآن ..

عندما نكون عائدين بسلامة الله إلي أرض الوطن وقبل هبوط الطائرة في مطار القاهرة الدولي تمر الطائرة وتحلق في سماء القاهرة علي بعد يسمح لنا جميعا بمشاهدة أسطح المنازل في قاهرة المعز.

هل سبق وأن مررتم بهذه التجربة من قبل وشاهدتم هذا الكم المريع من الأطباق التي تملأ السطح بالكامل لدرجة التي قد تتسائلون فيها كيف تمكننا من تثبيت هذه الأطباق بجوار بعضها وبهذا التلاصق الغريب ؟

إن منظر الأطباق الفضائية علي أسطح المنازل في القاهرة بل علي أسطح المنازل في جميع مدن مصر الغني منها والفقير النظامي منها والعشوائي هو منظر يستحق الدراسة بحق . لقد إستطاع المواطن المصري في وقت قصير جدا من التواصل مع العالم من حولنا وتنمية قطاع التجارة وذلك في مجال الأطباق الفضائية والكابلات التليفزيونية وذلك من خلال تثبيت الملايين من هذه الأطباق الغير جذابة علي الإطلاق بعناية شديدة جدا فوق أسطح المنازل وأقصد بلفظ العناية هنا قوة التثبيت حتي لاتطير من مكانها إذا ماتعرضت لموجة من الرياح القوية كما أقصد أيضا بلفظ العناية تحديد مكان التثبيت والذي يتضح من طريقة تجميع الأطباق كلها في مكان واحد أن الإنسان المصري إستطاع الوصول إلي سر تحديد النقطة التي يكون عندها الإرسال في أعلي مدي له ، لهذا نجد كل الأطباق تتجمع عند نقطة واحدة ، متلاصقة .. متوحدة .. متحدة حتي تعطي للناظرين الإحساس بروح العائلة الطبقية وتعمل علي ترسيخ مبدأ الوحدة والإتحاد بين أبناء الشعب في سبيلهم للحصول علي حقهم المشروع من القنوات الفضائية المجانية وغير ذلك.

إن المنظر حقيقة يستحق الدراسة. فكيف أمكن لهؤلاء الأماراتيين أن يخفوا كل هذه الأطباق من علي أسطح منازلهم وأن يجعلوا من مدينتهم ساحة جمال بحيث أنك وأنت تنظر إليها من الطائرة أو من برج خليفة لاتري إلا جمالا.

إنني أجزم بأنهم قبل أن يشرعوا في بناء برجهم والذي من حقهم تماما أن يفخروا به ، قد قاموا بدراسة المنطقة المحيطة به من كل الزوايا والتي تسمي علي ماأعتقد – إمارة دبي – وقاموا بتخطيطها وتزيينها وترتيبها ونثر المنتزهات هنا وهناك ومد خطوط من الزراعات والبحيرات الصناعية والنوافير الراقصة بل إنهم قد قاموا أيضا بإعادة بنائها لضمان أن خطوط المباني عندما ننظر إليها من علِّ ، سنجدها خطوط متسقة منتظمة تدل علي أن هناك مهندس خطط لهذه المدينة لا مقاولا قد قام ببنائها علي قد فلوس أصحابها والذين حاولوا بعد ذلك أن يرسموها ليسجلوا مابها من بيانات.

لوهلة تخيلت لو أن المصريين الذين هم البناوون الأوائل في المنطقة كلها بل وأحد البنائيين الأوائل علي مستوي العالم قد قرروا أن يتحدوا الأماراتيين وأنهم قرروا بناء البرج الأعلي في العالم علي ضفاف نيل القاهرة ليضيفوا عجيبة جديدة إلي عجائب العالم والتي يملكون إحداها. تخيلت أننا إستطعنا بناء هذا البرج العملاق علي غرار الهرم الأكبر لنرتفع فوق السحاب ونتعدي الكيلومتر من البناء وأن الناس من كل مكان في العالم قد أتوا ليشاهدوا هذا البناء العملاق الذي نتحدي به المعماريين العالميين ويستطيعوا من فوق برج القاهرة الجديد أن يشهدوا علي الحضارة التي نعيش بها ووسطها.

وقفت في الطابور أمام المصعد في إنتظار دوري للصعود إلي أعلي البرج وإذ بي أجد أحد هؤلاء الأشخاص من أفراد اللهو الخفي يطلب مني أن أتبعه حتي يمررني من هذا الطابور ويضعني في المقدمة. ....

أستغفر الله العظيم .. يبدو أنني لم أنجو بعد من هذه النظرة السوداء التي خلفتها عندي ثقافة الذراع ولاأتصور أننا عندما سنقوم بهذا التحدي فإننا سنقوم بفرض المزيد من السيطرة علي العاملين ونعمل علي تغيير ثقافتهم .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

وقفت في الطابور ولم يعرض علي أحد خدماته المدفوعه لاحقا لإننا أصبحنا أكثر نظاما وأعمق ثقافة . المهم أنني تمكنت من الصعود إلي قمة البرج لأقف علي أرتفاع الكيلومتر شاهدا علي حضارتنا الجديدة التي قمنا ببنائها بأيدينا بدلا من التفاخر بحضارة أجدادنا والتي لانعلم حتي الآن سر عظمتهم لإننا إنسلخنا عنها ولكن لإن جينات العظمة والهندسة المعمارية والتفوق الحضاري لازالت تسري فينا فإننا سنستطيع يوما أن نبني نحن حضارتنا التي تثبت تفوقنا كمصريين لا كفراعنة.

وقفت فوق البرج وذهبت إلي مكبرات الصورة المثبته علي أطراف السور الخارجي لنتمكن من رؤية القاهرة .. قاهرة المعز ، مدينة الآلف مأذنة والنيل والأهرامات والقلعة وجبل المقطم ومبني ماسبيرو ووزارة الخارجية ومجمع التحرير وسيتي ستارز وطبعا مدافن الغفير ومدافن البساتين علي ضفة طريق صلاح سالم شريان المرور الرئيسي. ولاأتصور أن أجد هذه المكبرات لاتعمل أو عليها من الغبار مايعوق الرؤية أو تم تثبيتها علي إرتفاع يمنعني من إستخدامها إلا إذا وقفت فوق كرسي صغير يقوم أحد العاملين بوضعه كخدمة مدفوعة لاحقا كما هو الحال ببرج القاهرة القديم والذي أصبح مع الوقت بناية صغيرة وسط البنايات العملاقة التي ظهرت حولها.

المهم أنني تمكنت من التغلب علي كل هواجسي وتخوفي من سيطرة ثقافة الذراع علينا حتي في اليوم الذي إستطعنا فيه إثبات ذاتنا وتمكنت أخيرا من الوصول إلي طرف السور الخارجي للمبني والنظر مباشرة علي القاهرة قبل النظر من خلال مكبرات الصورة ... ولكن تخيلوا معي ماذا رأيت ؟

لقد تم الحفاظ علي القاهرة عن طريق تغليفها بسحابة من الأتربة علي إرتفاع قريب جدا من سطح الأرض وذلك للمحافظة علي خصوصية المدينة وحتي لايستطيع أي قمر إصطناعي أن يقوم بتصويرنا بسهولة ..... فكر جديد

كما تم نزع جميع المساحات الخضراء من قلب القاهرة إلا التي يفرضها علينا القانون ومتطلباتالإتحادات الدولية عند بناء ملاعب كرة كما في إستاد القاهرة وملعب المقاولون وإستاد الكلية الحربية وملاعب الأندية مع بعض الحدائق المتناثرة كتلك التي أهدتها لنا مؤسسة الأغا خان . أما حديقة الحيوان والتي تتمتع بمساحة خضراء شاسعة في قلب محافظة الجيزة وتقوم بعملها كرئة لهذه المدينة المكتظة بالسكان فهي في طريقها للإنتقال إلي محافظة السادس من أكتوبر في عملية نقل رئة من محافظة لأخري علي أن يتم وضع محافظة الجيزة علي جهاز تنفس إصطناعي.

ويبدو أن الغرض الأساسي من نزع كل المساحات الخضراء من قاهرة المعز هو الحفاظ علي طابع القاهرة الجديد لكي تصبح مثل مراكش الحمراء وتونس الخضراء فيصبح لدينا القاهرة الكافيه أوليه بلون التراب وذلك لأننا جميعا نعلم أن تراب مصر غالي علينا جدا ، لذا وجب علينا الحفاظ عليه بل وجعله علامة مميزة لنا نعفر بها وجوهنا.

أما المنظر الذي لم أستطيع نسيانه أو تناسيه فهو كم الأطباق التي تزين أسطح المنازل في لوحة تشكيلية غير إبداعية علي الإطلاق بأسطحها التي يعلوها الصدأ والكابلات التي تخرج منها في تصميم ثعباني يمتد من أسطح المنازل ليسير علي جدران المنازل في تقاطعات تثبت مدي التلاحم بين السكان وبعضهم البعض.

لقد تم إختزال معاني الجمال عندنا في تصميم مبني متميز لفندق أو برج سكني أو إداري يطل علي النيل نهتم فيه بتفاصيل الواجهة والديكورات الداخلية بينما نسينا تماما أن هذه البنايات تطل علي باقي القاهرة لتكشف من علِّ ماهو مستور منها ونحن نسير في شوارعها. إننا نقوم بمنتهي الهمة ببناء الأبراج ونبدع في تصميماتها وتشطيباتها لكي تقوم بكشف عوراتنا التي لانملك معها إلا أن نضع وجوهنا في التراب .. وهو كثير تحتنا وفوقنا والكثير منه علينا.

قبل أن نفكر في بناء برج نناطح به أباطرة الهندسة في العالم فإنه لابد لنا أن نعيد تصميم مدينتنا وإعادة تنسيقها لكي نستطيع أن ننظر إليها من فوق وبدون أن نشعر بالخزي.

لابد لنا من تأهيل هذا الشعب ليس بوضع المزيد من القوانين والنظم ولكن بتفعيل ماهو قائم منها بالفعل.

لابد لنا من التعامل مع هذه الثقافة اللعينة التي أعطت كل واحد منا الحق أن يفعل مايشاء وأن يقوم بتركيب الطبق الذي يتيح له مشاهدة مايريد بغير أن يكترث بما يجبرنا علي أن نشاهده وإن كنا لانريد.

لابد لنا من التفكير والعمل علي إيجاد الحلول لإزالة هذه التشوهات المرئية التي لن تمكننا يوما من بناء أبراج عزتنا. لإنه يتوجب علينا أولا أن نعيد تأسيس القاهرة من تحت لنستطيع أن ننظر إليها من فوق بدون أن نشعر بالخزي والكسوف.

كنت في زيارة لمدينة دمشق بسوريا وصحبني صديقي السوري هناك إلي مصيف بلودان الجبلي الشهير والذي يتمتع بجو صيفي بديع نحسد عليه أشقائنا في سوريا. كان المنظر الملفت لهذا المصيف المتميز هو أن كل المنازل هناك لها نفس الطابع المعماري بحيث أن كل البيوت تنتهي بسقف مائل مثبت عليه طبقة من القرميد باللون البصلي المميز.

سألت صديقي السوري عن كيفية إلزام سكان المنطقة بهذا الطابع المعماري المميز والذي يجعل المنظر من فوق حقا بديعا . .

لقد أعطت الحكومة السورية الحق لكل مواطن بأن يرتفع بدور أخير من البناء الخفيف علي أن يلتزم بوضع هذا السقف الذي يعطي طابع مميز للمدينة ، وهم بهذا قد وفروا له طابق إضافي يزيد من دخله أو من مساحة إستخدامه للمبني ولكن بطريقة أخري غير مباشرة تحقق لهم مايريدونه من أن يرسموا المدينة من تحت حتي تصبح جنة للناظرين لها من فوق.

إن الحلول كثيرة .. إذا ماأردنا التغيير

ولكن المشكلة الحقيقية هي أننا قد إستسلمنا لحالنا وقبلنا أن نقبع في جهة المُستحَليين حرام .... حرام

12 - درس خصوصي ... جدا


قديما قالوا لنا أن قف للمعلم وفه التبجيلا .. كاد المعلم أن يكون رسولا. نعم كان المعلم قديما مثالا للأمانه العلمية والأخلاقية والإجتماعية و ..... كل أنواع الأمانات التي يمكن للعقل البشري أن يتصورها لا لإنه كان نزيها أو مؤمنا أو عنده أخلاق أو بيعرف ربنا ... ولكن لسبب واحد أبسط وأشمل وأعم ... لقد كان معلما.

زمان كان المدرس أو الخوجة شكل تاني ، مضمون أخر ، أسلوب مختلف. كان المدرس زمان له هيبة يفرضها موقعة كمعلم أجيال يأمتنه أولياء الأمور علي أولادهم ليعلمهم ليس فقط النواحي العلمية التي تؤهلهم للترقي في صفوف الدراسة ولكنه كان أيضا مسئولا عن تعليمهم كيفية التعايش مع الآخريين ، تعليمهم الأخلاقيات النابعة من ديننا ومن قيمنا وتراثنا ، بل وتعليمهم أيضا معني الإحترام وكيف يمكنهم أن يعيشوا محترمين إذا ماقدموا لأنفسهم بأن إحترموا من حولهم.

كان المعلم هو المدرسة ، بل كان المعلم هو الأداة التي تعمل علي توصيل كل مايريده الأهل من أخلاقيات وتعاليم وأسس ومبادئ إلي أولادهم. لذا كان البيت يسلم للمعلم بهذه المهمة ويترك له الطريقة التي يختارها لتعليم الأولاد طالما قبل الآهل المدرسة التي يرسلون إليها أولادهم ، كان ذلك يعتبر تفويضا للمدرس بأداء مهمته بدون تدخل من البيت إلا للمتابعة وأداء دورهم في إستكمال رسالتهم من البيت.

ولأن القيم زمان كانت مختلفة عن قيمنا اليوم ، ولإن الثقافة زمان كانت مبنية علي الإبداع في إيجاد الحلول لمشاكلنا اليومية من قلة الدخل وتعنت المديرين ومطالب البيت وما إلي غير ذلك من المشاكل التي تدفعنا اليوم إلي التعامل معها إنطلاقا من ثقافتنا الجديدة - ثقافة الذراع – والتي لاترينا إلا طريق واحد لحل مشاكلنا ألا وهو أن نحكم ذراعنا لا عقلنا لنأخذ مانستطيع بقوة الذراع أو بقوة الواسطة أو بقوة الفهلوة أو بقوة الإستحلال ، الأمر الذي أصبح معه كل شئ في المجتمع مستحلا حتي القيم والأخلاقيات وشرف المهنة.

زمان كان المدرس يذهب إلي عمله ليربي أجيال ولم يكن أبدا يفكر أن هؤلاء الأولاد الذين هم مستقبل البلد وأملها سيصبحون في يوما من الأيام ثمن رخيصا لإحتياجاته المادية أو متطلباته الحياتية مهما تعاظمت هذه الإحتياجات أو تكالبت عليه الظروف والمشاكل التي تدعوه لأن يقدم التنازلات من أجل تحقيق أهدافه الشخصية.

كان المدرس يعلم تماما مهام وظيفته ، يعلم تماما أنه يأتي للمدرسة بصفته مؤتمنا من أولياء الأمور علي أولادهم وأن ميثاق شرف المهنة يحتم عليه أن يلتزم بدوره التربوي وأن يتفاني في شرح الدروس والتأكد من أن كل طالب قد فهم القدر المطلوب حسب قدرته والذي يمكنه من متابعة دروسه في البيت ودون الإحتياج إلي أحد أو طلب المساعدة من أحد.

لم يكن ميثاق شرف المهنة هذا معلنا أو متضمنا في مستندات تعيين المدرس في وظيفته ، ولكنه كان مفعلا تمام التفعيل لكل من ينتمي لهذه المهنة الشريفة . كان هذا الميثاق معلنا وإن لم يكن مكتوبا ، معمولا به وإن لم يكن معتمدا من جهة رئاسية ، مفعلا من الجميع وإن لم يكن ذو صبغة قانونية.

كان المدرس في هذا الزمان الجميل معلما للأجيال بحق ، تراه معلما في الفصل وتراه تربويا في فترتات الراحة وتراه والدا عند العقاب بينما يكون صديقا عند النقاش. كان المدرس في هذا الزمن الجميل هو حجر الأساس الذي يتم وضعه لمستقبل أبنائنا من قبل الدولة والمجتمع ومن ثم نقوم نحن بعد ذلك بإستكمال البناء والأستثمار في أولادنا لنفيد الدولة ونساعد في تطوير المجتمع . لقد كانت العلاقة بيننا وبين الدولة في هذا الزمن الجميل علاقة ثنائية تسير في الإتجاهين بحيث كانت الدولة تهتم بإخراج مدرسين فاهمين لمهام وظيفتهم ومؤمَنّين ضد الفساد والمقايضة بالإحتياجات عن طريق تأمين الحد الأدني من الإحتياجات الذي يحافظ عليهم شرفاء. وكانت العائلة بالتبعية تقوم بدورها في الإهتمام بأولادها لتخرجهم فاهمين لحقوق الناس من حولهم وحقوق الدولة عليهم وترسخ فيهم معاني الشرف التي تدفعهم إلي التعامل مع مشكلاتهم الحياتية والمادية إنطلاقا من القبول لوضعهم ووضع الناس من حولهم ووضع الدولة التي تتفاني من أجلهم فلاينساق أحدهم إلي تطبيق سياسة الذراع لإنه يحتاج هذا أو لإن الآخريين قد أخذوا مالايستحقونه أو لإن الدولة لم تقوم بدورها.

هل أخذ طه حسين دروس خصوصية يوما ما في اللغة الفرنسية أو في الأدب العربي ليصبح عميد الأدب العربي ؟

هل فعلها يوما العقاد أو عبد الوهاب أو أنيس منصور ؟

هل يستطيع أحد أن يخبرنا عن والده أنه كان يأخذ دروس خصوصية في كل المواد الدراسية لإن المدرسين لايقومون بشرح المواد الدراسية علي الوجهه الأكمل ؟

أرجوكم .. أريدكم أن تسألوا وتتيقنوا قبل الإجابة . أعلم أنه كان هناك بعض الباشوات وأفراد العائلة المالكة يقومون بإحضار مدرسين خصوصين لأولادهم في الصغر ولكن يجب علينا جميعا أن نعلم أنهم كانوا يقومون بذلك من أجل نقل الثقافة الغربية لأولادهم وليس من أجل التعليم الدراسي.

لقد كان المدرس يقوم بواجبه في المدرسة من شرح الدروس الخصوصية وتوجيه الطلاب وكأنه في درس خاص يقبض من وراءه الكثير من المال كحال مدرسينا في هذه الأيام.

وأستطيع أن أسمع الكثير منكم وهو يقول أن ظروف الحياة في هذه الأيام حيث الراتب لايغطي مصروفات ثلث الشهر وأن المدرس مثله مثل غيره من البشر يحتاج لأن يعيش ويرعي أولاده وأهل بيته وأن يركب سيارة ويلبس ويصرف ويصيف مثله مثل باقي المهن الوظيفية التي حوله وإلا لأصبح قدره بأن يصبح مدرسا هو نقمة عليه يدفع هو ثمنها ليعلم أولادنا بينما نحن نرتع في الخيرات ونركب السيارات ونرتاد المصايف.

ولكن هذا هو بيت القصيد ... فمنذ متي كان لنا الحق أن نقايض علي أخلاقياتنا ؟

منذ متي كان لنا الحق أن نقايض علي ضمائرنا ؟

بل منذ متي كان لنا الحق أن نقايض علي أولادنا ؟

عفوا أيها المعلم .. فأنا لن أقبل منك أي أعذار عندما نتحدث عن أخلاقيات مهنة سامية مثل مهنتك .

أنا لن أقبل منك أي أعذار عندما أتحدث عن أستاذي الذي يعلمني كيف أصبح إنسانا ..

لن أقبل أي أعذار عندما أتكلم عن من كاد أن يصبح رسولا فإذا به تحت وطأة الحاجة وسيطرة النفس البشرية وضيق ذات اليد يتحول لأن يكون أبا جهل وإن كان من قبل هو نفسه أبا الحكم.

نعم لن أقبل أن يتحول أساتذتي وأساتذة الأجيال إلي تطبيق ثقافة الذراع علينا لكي نرسل أولادنا إلي معاقل دروسهم الخصوصية لكي نضمن نجاحهم المزور .

نعم لن أقبل أن أُستحَل من قبل أساتذتي وأن أقايض بنجاح أولادي الباهت علي شرف مهنة كانت شريفة ولابد أن تظل كذلك سواء رضينا أم لم نرضي.

لن أقبل أعذارا حتي وإن لم أكن في موقف القاضي الذي يستطيع إصدار حكم بالجلد حتي الموت علي هذا المدرس الذي تخلي عن شرفه وقبل أن يبيعه بقليل من المال .. وإن كثُر.

نعم لن أقبل منك وإن كنت أتفهم إحتياجاتك وتطلعاتك التي هي مشروعة بكل التأكيد طالما لم يكن الثمن هم أبنائنا . طالما لم يكن الثمن هي نزاهتك . طالما لم يكن الثمن هو ميثاق شرف مهنتك.

تري .. أين تكمن المشكلة ؟

هل ندفع نحن الآن ثمن مجانية التعليم .. ؟

إذا كان الثمن هم أولادنا وأبنائنا .. فلتذهب مجانية التعليم إلي الجحيم ..

إسألوا هولاء الأباء الذين لايجدون مايكفي إحتياجاتهم المعيشية عن مصروفاتهم ، لتكتشفوا المفارقة المذهلة.

إن ربع دخل رب الأسرة المتوسطة في مصر إن لم يزيد يذهب في الدروس الخصوصية ليحل مشكلة المدرس الذي تنازل عن أساسيات مهنته وأصبح بقدرة قادر تاجر يبيع العلم لمن يستطيع دفع ثمنه بدلا من أن يكون راهبا في محراب العلم.

إذا فلنواجه الأمر بشئ من الواقعية . لماذا لاتأخذ الدولة هذه المصروفات التي يدفعها رب الأسرة قسرا لمعدومي الضمير وتقوم بهذه الأموال بإعادة هيكلة عملية التعليم في مصر وتحسين دخل المدرس لكي لايحتاج لمد يده حتي لا يتم قطعها؟

لماذا لانقوم بوضع مواثيق شرف للمهن المختلفة ونعمل علي تفعيلها بقوة القانون طالما أن قوة الضمير لم تعد مفعلة ؟

لماذا أصبحنا نهتم بكم الخريجين ولم نعد نهتم بمستوي هؤلاء الخريجين وأخلاقياتهم التي هي في إنحدار لكي تثبت لنا إنهيار حجر الأساس أثناء وضعه وقبل الشروع في بناء الإنسان المصري ؟

لماذا قبلنا أن نُستحَل ممن لايُقبل منهم أبدا أن يستحلونا ؟

لماذا نقبل الدنية في أولادنا .. وفي دنيانا ... بل وفي ديننا أيضا ؟

11- المرور ... أولا ..


لإنني من هواة السفر والترحال بين بلاد الله ، فإنني قد إعتدت في كل رحلة لي أن أقرأ عادات الشعوب وطبائعهم وأسلوب حياتهم كنوع من أنواع تنوع الثقافات كما أنني أستطيع أن أعتبره نوع من أنواع شحن بطاريات الطاقة التي تُستهلك أثناء فترة جلوسي في بلدنا مصر بين العمل والأهل والأصحاب فضلا عن المعاناة اليومية أثناء الإنتقال بين شوارع العاصمة والتي أحتاج خلالها لمدة حوالي ساعتين للإنتقال من مصر الجديدة إلي المهندسين ومثلها أثناء رحلة العودة. ولكن كل هذا يهون في حب مصر والتي لاأشعر بمدي حبي لها إلا عندما أسافر وأستمتع بالناس والشوارع والجو والتعامل مع الأجناس الأخري ثم أجد نفسي أعود مرة أخري لبلدنا مصر لإنني أحبها أو لإنني قد أعتدت علي شقائها.

تعلمت من رحلاتي خارج مصر أنك تستطيع بسهولة تكوين فكرة مبدئية حقيقية بنسبة كبيرة عن ثقافة أي شعب من خلال مشاهدتك لطباعهم المرورية ومدي إلتزامهم بتطبيق قواعد المرور حتي ولو سنحت لهم الفرصة لكسر هذه القواعد. بل إنني علي تمام اليقين أن الإنسان المنظم والمحترم هو من يستطيع أن يحترم النظام حتي في ظل غياب الرقابة وأن إحترامنا لأنفسنا ينبع في الأساس من خلال إحترامنا لغيرنا وإحترامنا للقوانين سواء قبلناها أو لم نقبلها لإنك لن تستطيع أن تطلب من الآخريين إحترامك إن لم تحترم نفسك ، وإحترامك لنفسك يجبرك علي تطبيق القوانين والنظم في الخفاء قبل العلن وذلك لإنك تحترم نفسك والتي هي عليك رقيبة قبل الناس.

عندما تسير في شوارع المدن العربية – الخليجية علي وجه الخصوص – والمدن الأوروبية – الغربية علي وجه الخصوص – والمدن الأمريكية – الشمالية علي وجه الخصوص ، فإنك تستطيع أن تستشعر الإلتزام كطبيعة من طبائع أهل هذه المدن. بل إنك تستطيع وأنت تقف في إشارة المرور التي تمتد علي مرمي البصر أن تري النظام مجسدا في طابور السيارات الطويل الممتد علي مرمي البصر بدون أن تسمع صوت ألة تنبيه وبدون أن تجد أحد السائقين يخرج من الصف ويمر أمامك في محاولة منه لأن يقف أمامك.

إن الإلتزام المروري هو الصفة الغالبة علي طباع البشر في أوروبا والدول المتقدمة . لذا فإنهم عندما يأتون إلينا هنا في مصر نجدهم ينظرون إلي سائقي السيارات وكأنهم يشاهدون هؤلاء المهرجين في السيرك القومي وهم يقومون بحركات بهلوانية غير متوقعة لانستطيع معها إلا أن نضحك حتي لايقف قلبنا من الخضة.

كان لي صديق أمريكي جاء منذ حوالي العام في زيارة سياحية إلي مصر التي قرأ عنها في كتب التاريخ وتشبع بحضارتها التي إمتدت عبر السبعة ألاف عام والتي تقف الأهرامات والمعابد والمسلات شاهدة علي عظمتها التي كانت .... عظيمة يوما ما.

وقد إشترط صديقي عليّ أن أتركه يهيم في مصر وحده بدون أي مصاحبه من أحد لأنه يريد أن يخوض التجربه بنفسه وبدون أي تدخل أو تأثير من أحد وذلك لأنه يعتقد أنه يعرف عن مصر الكثيرويريد أن يختبر معرفته لنفسه وبنفسه.

وبعد أن أمضي صديقي حوالي أسبوعين هائما بين شوارع القاهرة والأقصر وأسوان وسائحا في شرم الشيخ وزائرا لكل معلم سياحي إستطاع الوصول إليه ليري بأم عينه ماقرأ عنه في الكتب ويتأكد أن معرفته المكتبية قد توثقت بحقائق وشراهد رأها وعاشها ومارسها بنفسه . إتصل بي صديقي ليخبرني زنه قد أنهي زيارته وأنه سيسافر اليوم مساءاً عائدا إلي بلده بعد تجربه عميقة مريرة في معاناتها ولكنها عظيمة في نتيجتها.

وأنا في طريقي إلي المطار في حوالي الساعة الثامنة مساءاً لأوصل صديقي ليلحق بطائرته والتي ستقلع في الساعة الواحدة صباحا وذلك حسب طلبه أن نتحرك علي الأقل خمس ساعات قبل ميعاد الإقلاع لنتلافي الزحام وماقد ينتج عنه من تأخير. سألت صديقي ونحن في الطريق :

أنا : كيف وجدت مصر ؟

صديقي الأمريكي : بدون زعل ..

أنا : أبدا ..

صديقي الأمريكي : إن مصر هي .....

إن مصر هي .. أفضل فوضي منظمة

أنا : ماهذا ؟ إنني لإول مرة أسمع هذا الوصف عن مصر

صديقي الأمريكي : ياصديقي إن الفوضي عندكم هي العنوان . أنظر إلي الشوارع وكيف يسير الناس في صفوف ثعبانية حيث يلتف الذيل حول الرأس

أنظر إلي الخط الأبيض والذي يجب أن تسير السيارات بجانبه لا فوقه .. هل تستطيع أن تري الخط الأبيض عندكم

أنظر إلي هذه الميكروباصات كيف تقف فجأة وتتحرك فجأة وينزل منها الناس فجأة ويصعد إليها الناس فجأة

أنظر إلي الناس من حولك وقد قرروا أن يعبروا الطريق حتي ولو كان الثمن حياتهم

إنها الفوضي بعينها ... إن تعبير كلمة الفوضي قد تم إختراعه ليصف الشارع المصري

أنا : بس بالرغم من كل ده .. الناس أهي ماشية وعايشة وبتضحك كمان

صديقي الأمريكي : لهذا أقول لك أنها أفضل فوضي منظمة

لقد إستطعتم أن تخلقوا هذه الفوضي وأن تضعوا نظام عجيب خاص بكم يمكنكم من التعايش معها . لقد إستطعتم أن تضعوا النظام الذي يمكنكم من إحترام الفوضي التي خلقتوها بأنفسكم

أنا : بدأت أفهمك للأسف ...

صديقي الأمريكي : إنني أتفهم تماما وجود مثل هذه الفوضي في ظل الأمكانيات المتاحة ولكنني لا أستطيع علي الأطلاق أن أفهم كيف إستطعتم خلق هذا النظام العجيب الذي يمكنكم من التعايش مع هذه الفوضي إلا إن كنتم قد إستطعتم أن تجعلوها ثقافة عامة تعيشون وتتعايشون بها.

أنا : أري أنك قد تعمقت في دراستك لمصر

صديقي الأمريكي : الأمر لايحتاج إلي تعمق أو تبحر في الدراسة ، الأمر واضح وضوح العيان

أنا : عموما ، إن هذا الوصف هو الأول من نوعه بالنسبة لي

صديقي الأمريكي : بل هو الأول من نوعه بالنسبة لي أنا

وسافر صديقي الأمريكي إلي بلده حيث الزحام الشديد والألتزام المروري الأشد مخلفا وراءه العديد من علامات الإستفهام وعلامات التعجب علي حالنا وأحوالنا وتحولتنا.

هل حقا وصلنا إلي هذه الدرجة من الفوضي المنظمة التي قبلناها وتقبلناها وأصبحت ثقافة نعيش بها ونغذيها لتكبر فينا وتتملكنا وتصبح هي الأسلوب الأمثل لنعيش في بلدنا ؟

هل هذه العشوائيات التي تنتشر داخل قلب العاصمة كالسرطان الذي ينتظر الفرصة ليستشري في كل الجسد هي دلالة قاطعة علي إنتشار الفوضي في قلب العاصمة ؟

وهل فشلنا في السيطرة علي هذه العشوائيات وقبلنا التعامل معها كأمر واقع نجمع لهم التبرعات ونوفر لهم الغذاء وفرص العمل حتي لايثور علينا هذا السرطان ويصبح مع الوقت هو الدليل الدامغ علي ضعفنا وعلي قبولنا التعايش مع هذه الفوضي من باب اللي ماتقدرش تغلبه ... صاحبه؟

هل سير السيارات فوق الخط الأبيض المرسوم وسط كوبري ستة أكتوبر ليكونوا حارة سير ثالثة علي طريق مكون من حارتين فقط هو دليل الفوضي المرورية وإنتشار ثقافة الذراع الفوضوية بيننا ؟

وهل إستسلامنا لهذه الحارة المرورية التي تولدت علي حساب شعورنا بالنظام والإلتزام به هي دليل علي خنوعنا ؟

هل جبروت سائقوا الميكروباصات وتلذذهم بإشاعة الفوضي بيننا وإجبارنا علي السير وفق نظامهم لا وفق نظام المرور هو دليل قوتهم وجبروتهم أم دليل ضعفنا وإستسلامنا؟

أم تري أن عدم مقاومتنا للخطأ الذي نراه كل ساعة ولانملك إلا الدعاء عليهم هو دليل ضعفنا وهواننا علي أنفسنا قبل الناس ؟

لقد أصبح المرور من الآخريين وعلي حساب الآخريين وبمساعدة الآخريين وبقبول الآخريين هو المبدأ الذي نعيش به الآن . أصبح كل واحد منا يري أن من حقه المرور أولا .

ولكنني أري أن إصلاح حركة المرور وإعادة تأهيل المواطن المصري لكي يحترم النظام المتمثل في إشارة المرور والخط الأبيض والحارة المرورية وضابط المرور وقوانين المرور هو أول خطوة لكي يتعلم المواطن المصري أن هناك نظام يجب أن يتبع وأن هناك دور لكل واحد فينا وأنه لايمكن لأحد أن يجور علي حق غيره حتي وإن إمتلك القوة التي تؤهله لذلك أو غابت أدوات الرقابة التي تمنعه من ذلك.

صدقوني .. إن أردنا إصلاح ذاتنا ومقاومة ثقافة الذراع الفوضوية هذه فإنني أؤكد لكم أنه يجب أن نحترم... المرور .. أولا.

10 - اللهو الخفي ....


إن معظم الشركات العالمية التي تعمل في مجال السلع الإستهلاكية والخدمات التي تستهدف العميل ويكمن ربحها في مدي رضاء العميل عن الخدمة التي يتم تقديمها ، تقوم بتوفير نوع مميز جدا من الخدمة يسمي بخدمة مابعد البيع يتم توفيرها لعملاء الشركة الذين نفذوا عملية البيع والشراء أولا بناء علي إشتراطات البائع ومن ثم فإنهم يستحقون التمتع بخدمة مابعد البيع حيث يتم توفير خدمة الصيانة وضمان الأعمال وقطع الغيار الأصلية التي تخدم السلعة التي شرائها. المهم في هذه الخدمة أنها تقوم في الأساس علي عملية تحليلية للبيانات الأحصائية التي يتم توفيرها عن طريق قسم خدمة العملاء والذين تكون مهمتم تقييم الخدمة التي قامت الشركة بتقديمها لتحليل مستوي رضاء العميل عنها وإستعداده الشخصي للإستمرار في التعامل مع الشركة بناء علي مستوي الخدمة التي تقدمها الشركة سواء كانت خدمة البيع أو خدمة مابع البيع .... المهم الخدمة التي نقدمها من أجل تعظيم العائد بعد ذلك ...... أي أن الخدمة قبل العائد.

ولكن عندنا ... الأمر مختلف .. عندنا ننظر جميعا إلي العائد أولا، ننظر إلي النتيجة قبل أن ننظر إلي سير الأجراءات التي تضمن النتيجة.

عندنا نهتم جدا بالكم قبل أن نبحث عن الكيف ، لإن الكيف يمكن التغلب عليها بعدة طرق قد تختلف من شخص لأخر بناء علي ثقافته وأسلوبه في العمل وقناعاته الشخصية وإن كانت جميعها ستنتهي إلي نقطة إتفاق واحدة يتلاشي عندها الفروق ويتقابل عندها الفرقاء ألا وهي كم سنجني من وراء هذا أو ذاك.

في إحدي زياراتي لمصنع ملابس التي من المفترض أننا نشتهر بصناعتها لإن مصر من الدول الرائدة في زراعة القطن والذي كان علامة مميزة في صناعة الملابس علي مستوي العالم عندما كانت دول العالم تكن كل الإحترام للقطن المصري طويل التيلة والذي أخذ في القصر حتي أصبحنا نحتاج إلي ميكروسكوب لنستطيع تحديد طوله بعدما إستطاعت الهند والصين وتركيا والمكسيك أن تنافسنا في إحدي ميزاتنا التي حبانا بها الله سبحانه وتعالي وأصبحوا قادرين علي أخذ حصة كبيرة من السوق العالمي وأصبحنا نحاول إبرام الإتفاقات التجارية التي تضمن لنا حصة بعدما كانت دول العالم تتهافت علينا. بل والأدهي من ذلك أن هذه الدول قدمت إلينا لتغزونا في أرضنا وتبيع بضاعتها لنا نحن المصريين ونحن لانستطيع في المقابل بيعهم واحد علي عشرة من حجم صادراتهم إلينا. وبتطبيق قاعدة الهدف بهدفين خارج الأرض نجد أن النتيجة الآن أصبحت أربعة وسبعين لصفر لكل دولة علي حدة ، ولازلنا نحلم بالوصول إلي النهائيات.

المهم أنني عند زيارتي للمصنع وقيامي بتفقد خطوط الإنتاج وخطط مراقبة الجودة إستطعت إكتشاف سر من أسرار العبقرية المصرية في الإدارة والتي تعتمد في مجملها علي النتائج لا الإجراءات.

لقد إكتشفت أن وحدة مراقبة الجودة في المصنع هي عبارة عن طاولة كبيرة يجلس عندها العديد من الفتيات حيث يتم تجميع الإنتاج اليومي ووضعه أمامهم ليقوموا بمراجعته قطعة قطعة للتأكد من أنه قد تم تجميع القطعة بطريقة صحيحة وإزالة أطراف الخيط والتأكد من أن الأزرار قد تم تثبيتها جيدا. ثم يتم ترحيل القطع التي تم فرزها إلي قسم الكي والتغليف ليتم تسليمه بعد ذلك في مخازن المنتج النهائي.

قد يري البعض أن هذه الطريقة كافية لتحديد جودة المنتج النهائي وأنه سيمكنهم بطبيعة الحال من فرز المنتوجات للتأكد من جودتها ومستوي القبول لكل قطعة. وأنا لن أختلف معهم كثيرا إذا ماإعتبرنا أن هذه الوحدة هي المحطة النهائية لتحديد مستوي قبول المنتج النهائي. ولكنني زختلف جذريا معهم إذا ماكانت هذه المحطة – التي يجب أن تكون النهائية – هي المحطة الوحيدة لقسم مراقبة الجودة.

عندما نسمع أو نقرأ عن تطبيق برامج مراقبة الجودة فإنه يتولد لدينا يقين أن المواد الأولية الداخلة في التصنيع قد تم مراقبتها وأن إجراءات التصنيع التي تم إتباعها تمت وفق سياسة تصنيعية قياسية تميز مصنع الملابس عن الخياط الذي يقوم بحياكة كل قطعة علي حدة وفق قدرته ومهارته ومزاجه عند تصنيع هذه القطعة وهو مايميز برامج الصناعة المتكاملة عن الحرفيين الذين يمتهنون هذه الصناعة ولكن لايمتلكون برامج التصنيع المتكاملة التي تضمن أن كل قطعة تخرج من المصنع تتشابه مع مثيلاتها وأن مقدار الحيود عن المعايير القياسية هو في أقل مستوي ممكن لهذه الصناعة.

لقد قمنا هنا بإختصار كل إجراءات مراقبة الجودة إلي نقطة تفتيش نهائية تراجع المنتج النهائي الذي سيتم بيعه وجني الأموال من ورائه وتحديد مستوي قبول المنتج من وجهة نظر الشخص الذي يقوم بمراجعة المنتج النهائي بدلا من وضع إجراءات مراجعة قياسية لكل مرحلة علي حدة. لقد أهملنا في إجراءات مراجعة جودة المادة الخام عند إستلامها ومراجعة إجراءات التفصيل ثم إجراءات التصنيع لكل خط إنتاج حتي ننتهي عند إجراءات التجميع قبل أن نبدأ في إجراءات مراجعة المنتج النهائي للتحقق من أن كل مرحلة قد تم مراقبتها بعناية ووفق سياسة الإجراءات القياسية التي تم وضعها.

إنني أتحدث عن الفرق بين مايحدث عندنا وبين مايحدث عند كل الدول التي قررت أن تتقدم في صناعتها وذلك بفرض نظام حياة علي كل المواطنين يقضي بقبول مبدأ مراجعة الإجراءات لكل مرحلة ولايجد المواطن أي غضاضة في مراجعة خطوات عمله مرحليا ضمن سياسة الإجراءات المتكاملة حتي أصبح هذا النظام هو ثقافة بذاتها يتبعها المواطنون في حياتهم العادية لتصبح بعد ذلك عادة تنفيذية يلتزم بها العمال في مصانعهم والموظفون في شركاتهم بدون الحاجة إلي إيجاد النظم التي يستطيع عن طريقها رب العمل فرض هذا النظام علي العاملين بمؤسسته.

عند دخولي إلي محطة محروقات لتزويد سيارتي بالوقود وأقف في الصف منتظرا للسيارة التي أمامي لتدفع الحساب حيث يقوم العامل بأخذ النقود والذهاب إلي شخص أخر ليعطيه المبلغ وينتظر وأنتظر معه حتي يأخذ باقي الحساب ثم يذهب لقائد السيارة التي أمامي ليعطيه باقي الحساب وينتظر البقشيش وأمامه العامل الأخر الذي يمسح زجاج السيارة ببطء رافعا مساحات الزجاج في إشارة إلي أنه قد قام بعمل إضافي يستحق عنه بقشيش أخر قبل أن يقوم بإنزال مساحة الزجاج ولايهم من ينتظر خلفه لأنه سيأتي عليه الدور ويأخذ نفس الخدمة ويدفع هو الأخر البقشيش بدوره.

أتسأل هنا .. لماذا لايتم وضع سياسة إجراءات ويتم مراقبتها من قبل مشرف الوردية تقضي بأن يتم دفع الحساب عند نقطة خروج من المحطة حتي لاتتكدس السيارات أمام مضخات الوقود في إنتظار دفع البقشيش للعمال الذين يؤدون خدمة إجبارية قد لايحتاجها الكثير منا ؟

وطبعا كلنا يعرف تماما الإجابة أن هؤلاء العمال المساكين يأخذون راتب بسيط جدا وأنهم يعتمدون بنسبة تزيد عن مائتين بالمائة علي زيادة دخلهم عن طريق البقشيش الذي يحصلون عليه قسرا من كل واحد منا وذلك بفرض ثقافة الذراع علينا ونحن نقبلها بضجر وتأفف ولكن بدون أي رد فعل.

كلنا يضطر خلال اليوم عند ذهابه لقضاء حاجات عمله إلي صف سيارته في الشارع ليس لندرة مواقف السيارات ولكن لصعوبة الوصول إليها في بعض الأحيان أو لبعدها الشديد عن مكان عمله أو للمبالغة الشديدة في تعريفة الإنتظار في المواقف المخصصة وهو مايضطر الكثير منا لصف سيارته في أي مكان خالي أو مكان سيارة تخرج من مكانها ، وهو مايحتاج إلي مهارة قيادة خاصة لركن السيارة بالتحرك إلي الأمام والخلف لعدة مرات حتي يمكن صف السيارة في المكان الخالي بين سيارتين وبدون مساعدة من أحد. ولكن فجأة عندما تهم بالتحرك من هذا الموقف الغير نظامي تجد شخصا يقف أمامك وهو يشير إليك بالتحرك للأمام وكأنه قد أوقف لك الطريق لتخرج من مكانك.

إن هذا اللهو الخفي لايظهر إلا عندما تنوي الخروج من موقفك وأنت لاتحتاج خدماته ولكنه أبدا لايظهر عندما تحتاج إليه وأنت تحاول صف سيارتك. والعجيب في هذا اللهو الخفي أنه قد حدد تعريفة خاصة به لأي شخص يريد صف سيارته في الشارع علي أساس أنه قد حصل علي صك ملكية للطريق من الدولة وأنك تقوم بصف سيارتك في أملاكه الخاصه.

وأتسأل مجددا عن مدي الصعوبة التي يمكن أن تجدها الدولة ممثلة في المجالس المحلية بحيث يتم تقنين الوضع وتعميد أناس متخصصين كما كان يحدث بالماضي مسئوليين عن تنظيم حركة المرور والإنتظار في الشوارع بحيث يصبح الرسم الذي يتقاضاه هذا اللهو الخفي هو تعريفة رسمية معتمدة ندفعها بمنتهي الرضا مقابل خدمة رسمية ويمكن أن يضاف إليها أيضا خدمة تنظيف السيارة بدلا من أن ندفعها صاغريين للهو الخفي حتي لايقوم بتخريب سيارتنا إذا ماقمنا برفض سياسة الذراع التي يطبقها علينا ونضطر لقبولها كما قبلنا أشياء كثيرة أخري غيرها.

بل أنني قد أذهب لأبعد من ذلك عندما أطالب بتعيين مفتشيين كما كان الوضع سابقا مع وسائل المواصلات والتي كنا نجد مفتش الخدمة يصعد في المحطات ليراجع التذاكر ويتأكد أن السائق والمحصل قد قاما بعملهما حسب سياسة الإجراءات الموضوعة من قبل الشركة. فلماذا لانجد مفتش علي مراقبي مواقف السيارات يأتي علي حين غرة ليتأكد من أن الموظف يقوم بواجبه ويحصل علي الرسم الموضوع فقط بدون أي تجاوز. إنني أجزم هنا أن الرسوم التي يتلقاها اللهو الخفي منا قسرا تغطي بل وتزيد عن مصروفات تعيين هؤلاء الموظفين ولكنها ستشعرنا في النهاية بإننا أدميين نعيش في دولة تحترم مواطنيها وتحاول أن تفعل شئ بسيط لإراحتهم والأدهي من ذلك أن ذلك لن يكلف الدولة شئ بل وأجزم أنه مع الوقت وبقليل من التنظيم قد يصبح مصدر دخل للمحليات أيضا.

ومن الطريق العام أذهب إلي المرحاض العام حيث لايوجد رسوم علي إستخدام المرحاض بشكل رسمي ولكن صديقنا اللهو الخفي قد ظهر هناك أيضا.

فقط حاول دخول مرحاض في المطار أو في مطعم أو مصلحة حكومية أو ماإلي غير ذلك وستندهش من قدرة هذا الشعب العجيب علي الإبداع. فعندما لايكون هناك رسم مقرر للخدمة يتفنن اللهو الخفي في إيجاد الطريقة التي تجبرك علي دفع رسم للخدمة بطريقة مباشرة.

في أثناء إحدي رحلاتي خارج مصر إضطررت إلي الذهاب إلي المرحاض لألبي نداء الطبيعة - وهو أمر عادي نمر به جميعا علي ما أعتقد – وذهبت إلي الحمام الجديد النظيف في الصالة الجديدة النظيفة وهو ماجعلني أعتقد أنه لازال هناك أمل في هذه البلد. ولكن الشئ الغريب عند دخولي إلي الحمام أنه لم يكن هناك أي ورق تواليت موجود في الأماكن المخصصة لهذا الورق والتي تم وضعها بعناية وبأكثر من طريقة. فهناك ماكينة الورق الخاص بتجفيف اليد بعد الغسيل وهناك ذراع أخر لبكرة الورق داخل المرحاض ، ولكن لم يكن هناك ورق تواليت.

نعم هناك ماكينة وذراع الورق ولكن لم يكن هناك ورق .. !!

وفجأة يظهر اللهو الخفي وفي يده بكرة ورق ويقوم بقطع جزء كبير جدا منها دليلا علي كرمه معي والذي يجب أن أقابله بكرم مالي من ناحيتي . ويقوم اللهو الخفي بإعطائي الورق مصحوبا بإبتسامه وكلمات الترحاب المصطنعة مثل :

حمد الله علي السلامع يابيه .....

تروح وتيجي بالسلامه ياباشا .....

وبمجرد أن هممت بالخروج وجدت نفس الإبتسامة ولكنها مغلفة بنظرة حادة ومصحوبة بكلمات تحتوي في مضمونها علي صيغة أمر من قبيل :

أي خدمة ياباشا .. (أي أنه قد قام بعمل خدمة عندما أخفي الورق الذي هو بالمجان ليعطيه لك خصيصا وبدون طلب)

إن شاء الله ترجعلنا بالسلامة يابيه .. (نظرا لأنه قد يقوم بالدعاء عليّ إن لم أدفع له فتقع بي الطائرة)

لماذا لم يقوم المسئوليين عن تشغيل المطار بوضع سياسة إجراءات للتحقق من أن هذا العامل يقوم بعمله في نظافة الحمامات ومراقبتها وخدمة المستخدمين بدون وضع هذه السياسة القسرية المستفزة ؟

لماذا لم يتم تعيين مفتش خدمة يقوم بالمرور علي هذه الحمامات للتأكد من وجود مواد الإستخدام من الصابون والورق والتأكد من أن الأجهزة تعمل بكفأة وأن العاملين يقومون بدورهم وأنهم لايفرضون علي الركاب سياسة الذراع لتحصيل رسوم جبرية عن خدمة من المفترض أنها مجانية. وأرجو أن لا يقول لي أحد أن هذا سيكلف المطار أجرة هذا المفتش ..

إنني أؤكد لكم أن بالمطار الكثير من العمال الذين يقومون بأعمال غير مفهومة مثل هؤلاء الذين يقفون بجوار ماكينة تذاكر الدخول والتي كلفتنا الكثير من المال لتعمل أتوماتيكيا ولكنها وياللعجب لا تعمل إلا من خلال موظف يقوم بالضغط علي الزر وإعطائك التذكرة كنوع من توفير الرفاهية للشعب الذي لا يستطيع رفع ذراعه للضغط عل الزر ويحتاج لمن يقوم بهذا العمل المضني بدلا عنه. إذا لماذا لايتم تكليف هذا العامل بعمل مفيد مثل مراقبة سياسة الإجراءات بدلا من هذا العمل العجيب الذي لاأفهمه ولاأستطيع نفهمه حتي الآن ؟

لماذا .. ولماذا ... ولماذا

أسئلة كثيرة لاأجد لها إجابات إلا أن اللهو الخفي قد إستطاع أن يجد لنفسه واسطة كبيرة جدا تمكنه من تطبيق سياسة الذراع علينا وتمنع الآخريين من وضع سياسة إجراءات لتحمينا من هذا اللهو الخفي .. وحسبي الله ونعم الوكيل.

9- إنتي جايه تشتغلي أيه ....


لكم أضحكتني العظيمة ماري منيب وهي تتباري مع القدير عادي خيري في إستكشاف سبب قدومه لقصرها بهيئته المتواضعة التي تدل علي أنه ليس من البكوات أو الباشوات أصدقائهم وأنه فرد عادي من أفراد الشعب وقد أتي ليبحث عن عمل وتظل تسأله لمدة ربع ساعة ولأكثر من ثماني مرات:

إنتي جايه تشتغلي أيه ؟

ولأن المبدع عادل خيري كان يريد العمل في القصر لحاجة في نفسه فقد قبل أن تظل تسأله وفي كل مرة يجيبها مرة بإجابة مباشرة وهو يقول لها سواق ياست هانم ومرة أخري يمثل لها ماذا سيفعل ويأتي بالدكة ويجلس علي طرفها وكأنها سيارة ثم يبدأ في تمثيل أنه يقود هذه السيارة بل ويضرب البوري أيضا وهو يقول ( أعو ووا أعو ووا) لعلها تفهم بالإشارة إن لم تفهم بالكلام وتتوقف عن سؤاله : إنتي جايه تشتغلي أيه؟

بل وإمعانا في النكاية الكوميدية، تبدأ المستخدمة في وصفه بأنه حماره لأنه لايفهم ماتقوله ومرة أخري بأنه بغله لإنه يصر علي مناداتها مدام وهي لازالت مودموازيل في الستين من عمرها ولازال صديقنا طالب الوظيفة يقبل ويتنازل حتي ينتهي به المطاف بأن يتغير أسمه ليصبح عبده لإن كل السائقين الذين يعملون عندها لازم يكون إسمهم عبده ... ويقبل المسكين أن يصير حماره وبغله ثم ليصبح في النهاية ...... عبده

يبدو أن أكل العيش كان مرا في هذا الزمان وأن الواحد منا كان لابد له من أن يقدم البعض من التنازلات من أجل أن يستطيع الإلتحاق بوظيفة ثم البعض الأخر من أجل الحفاظ عليها.

عند عودتي من رحلة العمل بالسعودية والتي إستمرت لسنين وقد قررت أن أبدأ في إنشاء شركتي الخاصة في مجال عملي في مصر وذلك حتي أستطيع أن أعيد ترتيب حياتي من جديد وأن أتجمع مع عائلتي التي إفتقدتها كثيرا في سنوات الغربة. المهم أنني قررت أن أبدأ نشاطي في المجال الذي أفهمه وهو إدارة المشروعات بالرغم من تحذيرات كل الأصدقاء والأهل من هذا القرار الذي لن أعرف عاقبته إلا بعد تجربته والإنكواء بنار المصريين.

ولأنني من المؤمنين بمصر وبشعب مصر فقد قررت خوض المغامرة بغض النظر عن الصعاب التي ستقابلني وإن كنت لم أستطيع أن أخفي نظرات وعلامات وإشارات ودلالات وكلمات بل وأصوات التعجب وعدم التوقع والإستغراب بل والذهول لما أصابنا من تغيير جذري في سلوكياتنا وقناعاتنا وبالتبعية تصرفاتنا التي لاتنم أبدا عن حالنا وإن كانت تعكس بكل تأكيد ثقافتنا وقناعتنا الجديدة .

عندما بدأت في تأسيس شركتي إشترطت علي مراقب الحسابات أن يتم مراجعة حساباتي بمنتهي الدقة وبدون أي تلاعب حيث أنني لاأنوي علي الإطلاق التلاعب في دفاتر الضرائب ليس كنوع من الإستجابة لحملات مصلحة الضرائب والتي كانت تؤكد في اليوم أكثر من ثلاثين مرة في الإذاعة والتليفزيون أن الضرائب مصلحتك أولا ولاأدري إلي الان ماهي مصلحتي في الضرائب لإنني لاأعلم علي الإطلاق مصادر صرف أموال الضرائب وإن كنت أعلم علي الأقل - بنسبة واحد إلي حوالي أربعة ملايين – إحدي مصادر دخل مصلحة الضرائب ( وهو قيمة ماأدفعه أنا بالقطع)

المهم أن قراري كان علي قناعة شديدة جدا مني أنني سأدفع الضرائب المستحقه عن نشاطي كنتيجة مباشرة لقناعتي أنني بقبولي بمحض إرادتي أن أعود لأعمل في بلدي مصر مع علمي بكل ماسيقابلني من قوانين وروتين وأحكام وأشتراطات ورسوم جمارك وضرائب ... إلي ماغير ذلك من مصروفات معلنة أو غير معلنة فإنني قد قمت بتوقيع عقد مع الحكومة المصرية تسمح لي بمقتضاه أن أعمل في مصر نظير كل ماسبق ذكره .

ولأنني أعلم كل هذه التفاصيل فإنني بقبولي العمل في مصر فإن هذا يعني موافقتي وإلتزامي بكل هذه الإشتراطات سواء كانت منصفة لي أو غير منصفة وسواء علمت مصادر صرف الضرائب أم لم أعلم وسواء تطوع أحد الأشخاص وأفتي بحرمانية الضرائب أو أفتي غيره بأنها حلال. فطالما قبلت فإن هذا هو توقيع مني علي عقد مع الحكومة المصرية للسماح لي بالعمل علي أن تطبق الشروط والأحكام. وأعلم تمام العلم مايدور بخلدكم الآن وأنتم تتسائلون وهل الحكومة المصرية هي صاحبة البلد وهل أصبحنا ضيوفا ليسمح لنا بالبقاء أو الإنصراف ، بالعمل أو بالإستغناء.

وحيث أن الإجابة علي هذا السؤال تعتبر شائكة وستدخل بنا في مجال بحثي فلسفي قد يخرجنا عن موضوعنا الأساسي ، لذا فإنني لن أبحث هذا الأمر الآن وسأكتفي بالقول أن الحكومة المعينة أصبحت بحكم منصبها هي المسئولة عن وضع القوانين وتنفيذها ولهذا كان لابد لنا من العمل وفق هذه القوانين بغض النظر عن مستوي قبولنا لها وإلا كان لزاما علينا العمل أولا عن تغيير القوانين قبل البحث عن تطبيقها لأن تطبيقها القوانين هو فرض مجتمعي ومن يخالفه يصبح في نظر المجتمع والحكومة التي تدير شئون هذا المجتمع خارجا عن القانون ولن يقبل أبدا دفاعه الذي يبني علي أنه غير موافق علي القانون لذا قرر أن لايطبقه.

عموما ، فقد قررت الإلتزام بالرغم من نصيحة كل العالمين ببواطن وظواهر الأمور بأنني يجب أن لا أتسرع وأن أعطي لنفسي فرصة لدراسة الموقف في نهاية السنة المالية ثم تأتي مرحلة القرار بناء علي ماسنصل إليه من نتيجة وأرباح إن شاء الله. ولكنني رفضت بل وأصريت علي أن يتم وضع نظام مالي لايمكنني من التلاعب في دفاتر الحسابات في نهاية العام وكان ماكان وأرجو أن لايسألني أحد إن كنت ندمت علي قراري ... أم لا؟

وبدأت بعد ذلك رحلة البحث عن موظفين من حديثي التخرج وذلك لإن نشاط الشركة يعتمد في معظمه علي طاقة وحيوية الشباب ولايحتاج في نواحي كثيره منه إلي خبرات قديمة كما أن طريقة العمل التي سننتهجها تختلف فنيا وإداريا عن المطبق في السوق وأن الخبرات القائمة قد تصبح عائقا لتطبيق نظام العمل الذي أرغب في تطبيقه إذا ما أحتكم الموظف إلي خبرته الشخصية والتي أكتسبها من عمله السابق. لهذا قررت البحث عن حديثي التخرج علي أن أقوم بتدريبهم وإكسابهم الخبرات والمهارات اللازمة في عملنا من خلال دورات تدريبية ستقوم الشركة بتنظيمها بالـإتفاق مع إحدي مراكز التدريب والتي ستتولي وضع البرامج التدريبية الفنية والشخصية لموظفي الشركة وأن ألتزم تعاقديا بقيمة محددة سنويا كبدلات تدريب لكل موظف وذلك لضمان الوصول بالمستوي الفني للموظفين إلي الدرجة التي تخدم تطلعات الشركة في توفير أعلي مستوي خدمة ممكن لعملائها.

فالغرض الأساسي بطبيعة الحال هو خدمة الخطة الإستراتيجية للشركة والتي يلزم معها تطوير أداء الموظفين ومهاراتهم الفنية والشخصية للوصول إلي أعلي معدلات أداء ممكنة تتناسب مع مثيلاتها العالمية. وهو غرض نبيل طالما سيحقق فائدة غير مباشرة طويلة المدي للشركة وفي سبيل ذلك سيحقق أيضا فائدة مباشرة لكل العاملين بالشركة.

أسف علي الإطالة في شرح هذه النقطة ولكن عند هذه النقطة بالتحديد يكمن مربط الفرس. بدأت في الإتصال بالأصدقاء والمعارف أولا حتي أستطيع الوصول إلي خط إتصال مع إحدي الجامعات المصرية الشهيرة لتوفير البيانات الشخصية للمتخرجين حديثا من كلية الهندسة – منذ شهر واحد فقط – وقد تمكنت بتوفيق الله سبحانه وتعالي من الوصول إلي ماأريد بحيث تمكنت من مقابلة مايزيد عن مائة مهندس ومهندسة كلهم من خريجي شهر واحد مضي.

قابلت المهندسين والمهندسات وقمت بعرض فكرة موجزه عن الشركة وخطتها في العمل والتوظيف والتدريب – كما أوضحت سابقا – وكنت أختم عرضي هذا في كل مقابلة بسؤال واحد ... ماهو الراتب الذي تتوقع الحصول عليه معنا؟

ولكم كانت دهشتي عندما وجدت الإجابة تقريبا متطابقة بين مايزيد عن 95% من إجابات المتقدمين والذين أكدوا جميعا أن زملائهم الذين عملوا الآن يتقاضون مرتب أساسي في حدود ألف وخمسمائة جنيه مصري. وحيث أنني لم أكن علي دراية تامه بسوق العمل في مصر فإنني لم أكن أدخل معهم في جدال حول الراتب وخاصة أن إجمالي الراتب الذي كنت أنوي عرضه عليهم يتضمن راتب أساسي في هذه الحدود.

عموما ، قمت بعد ذلك بعرض مهام عملهم وإعطائهم فكرة عن إفراد الراتب الذي حددناه لهم وهو ماتضمن بدون أي نقاش نفس المبلغ الذي طلبه أكثرهم ويزيد عليه أنني سأدفع عنهم الضرائب المستحقة للدولة والتأمينات الإجتماعية بالإضافة إلي برنامج التدريب الذي كنت قررته من قبل والذي سيكلف الشركة مبلغ في حدود عشرة ألاف جنيه سنويا لكل موظف علي أن يتم تحميل هذه القيمة ضمن ميزانية تطوير الأعمال وأن لاتخصم من راتب الموظف. لقد كنت واهما أبحث عن توفير أعلي مستوي ممكن من الراحة للموظفين حتي يمكنني أن أخذ منهم أعلي مستوي ممكن من الإلتزام والولاء الوظيفي... وهم كبير.



وحتي أستطيع أن أمضي في هذا النموذج التوظيفي والذي هو معمول به في معظم الشركات العالمية والشركات متعددة الجنسيات ، فقد إشترطت علي الموظفين أن يكون العقد التوظيفي لهم محدد بمدة أربع سنوات حتي أستطيع إسترداد المردود الإستثماري فيهم حيث أن الموظف الواحد سوف يكلف الشركة في الشهر مبلغ يزيد عن ألفين وستمائة جنيه عند إضافة البدلات والضرائب والتأمينات وهو مايزيد بنسبة حوالي 75% عن ماطلبه كل واحد منهم.

هل يري أحد منكم أنني أخطأت في طلبي هذا ؟

هل يري أحدكم أنني أستعبد هؤلاء الموظفين ؟

هل يري أي منكم أنني أحاول شرائهم بالمال ؟

عموما ، آيا كان رأيكم ، فإنني فقط كنت أحاول أن أعمل علي تطوير قدرات ومهارات شباب حديث التخرج لايمتلك أي خبرة عملية علي الإطلاق وأن أوفر لهم فرصة عمل قد لاتكون متوفرة للكثير في ظل البيانات الكثيرة التي تخرج علينا كل يوم بتفشي البطالة في المجتمع المصري ومسئولية الحكومة عن توفير فرص عمل وهو ماكنت ولازلت أعتقد أن شرفاء هذا الوطن يقع عليهم جزء من هذا العبأ وأن عليهم أن يعملوا جنبا إلي جنب مع الحكومة ليس فقط لتوفير فرص العمل بل وإلي الإرتفاع بمستوي هؤلاء الشباب وإحساسهم بأدميتهم وكيانهم وفي المقابل يجب علي هؤلاء الشباب أن يلتزموا بعملهم وأن يتعلموا أن العطاء يقابله عطاء وأن الإلتزام يقابله إلتزام وأن توفر الفرصه يلزمه التمسك بها.

هل تعلمون ماهي الردود التي تلقيتها فور عرضي لإفراد الراتب والشرط الذي يجب الإلتزام به من أجل تحقيق هذا العرض ؟

أربع سنين ...!!

هذا كثير جدا .. !!

وماذا لو أتي لإحدنا الفرصة ليسافر إلي إحدي دول الخليج بأضعاف هذا الراتب؟

وماذا لو أضطررت إلي ترك الشركة قبل إنقضاء فترة الأربعة سنين الإلزامية هذه ؟

إنك تشعرنا أننا في فترة التجنيد الإلزامي .. !!

وحاولت أن أفسر لهم أنني من أجل أن أوفر لهم هذا الراتب والبدلات والدورات التدريبية والضرائب والتأمينات فإنني لابد أن أشعر بأن هؤلاء الأشخاص الذين سأستثمر فيهم سيستمرون معي لفترة تغطي هذه الإستثمارات. حاولت أن أفهمهم الفرق بين التكلفة والإستثمار وأن التكلفة تدفع مقابل أداء خدمة ولكن الإستثمار يدفع مقابل خطة مرودها بعيد المدي .. ولكن بطبيعة الحال .. لا حياة فيمن تنادي.

الشخص الموظف : طيب مابدال ماتدفع الضرائب إديهيلنا كاش وموش عايزين لاضرائب ولا تأمينات

أنا : ده نظام البلد وماقدرش أغيره

الشخص الموظف : طيب إدفعلي فلوس التدريب دي وأنا أحضر بيها ماجيستير

أنا : أنا موش عايز منك ماجيستير ، أنا عايز أدربك علي أساسيات شغلنا ولازم أحطلك البرنامج اللي يفيدك ويفيد الشركة

الشخص الموظف : بس أنا ماقدرش أمضي معاك علي أربع سنين

أنا : ليه ؟

الشخص الموظف : كل أصحابنا بعد ماتخرجوا بشوية سافروا علي دبي والسعودية وإنت عارف المرتبات هناك قد إيه؟

أنا : بس إنت علشان تطلع وتشتغل لازم تثبت نفسك الأول في بلدك وتعرف علي الأقل إنت حتشتغل أيه

الشخص الموظف : حاشتغل مهندس والا حضرتك حتشغلني حاجة تانية

أنا : أه .... طبعا ........ مهندس ..... أومال أيه ...... إلا هوه إنتي جاية تشتغلي أيه؟

في الحقيقة أنا لاأستطيع أن ألوم شباب هذا العصر لأنه قد نما وسط قيم إجتماعية مختلفة تماما وثقافة تبث التناقض في روح هذا الشعب. فعندما يتربي شباب هذا العصر علي أن القوة هي السبيل الوحيد لأخذ الحقوق سواء كانت هذه القوة هي قوة الصوت العالي أو قوة المنصب أو قوة المال أو قوة الواسطة أو قوة المستندات أو قوة الإقناع ..... المهم أنه لن يمكن الحصول علي مانعتقد أنه حقنا إلا بوجود نوع ما من القوة ، فماذا ننتظر من هذا الشباب ؟

هل ننتظر أن يستطيع وضع خطة لحياته علي مدار الخمس سنين القادمة؟

هل ننتظر أن يستطيع أن يحدد أولوياته بناء علي تطلعاته لا إحتياجاته؟

إننا نعيش في زمن ميدو ...!!

في بدايات هذا القرن صعد في سماء كرة القدم المصرية نجم صغير في السن قرر أن يخوض بنفسه وبمعرفته تجربة السفر والإحتراف وأن يتحمل من أجل أن يصنع أسما لائقا في تاريخ كرة القدم المصرية .... وهو حلم شريف وياليت كل شاب مصري يكون له حلم مواز يخدم به نفسه ويخدم به وطنه.



في نفس الوقت الذي سطع فيه نجم ميدو في مصر كان هناك تجربة أخري كاميرونية تدعي صامويل إيتو وأخري عاجية تدعي دي روجبا وكل منهم له نفس الحلم وعنده نفس العزم وسلك نفس المسلك من أخذ الإحتراف منهجا وطريقا. وخرج الثلاثة من القارة السمراء إلي القارة العجوز كل في طريقه محاولا أن يجد لنفسه موطأ لقدمه وسط غابة تمتلئ بالكثير والكثير من الأقدام الموهوبة وحيث البقاء هنا للموهوب والقادر والملتزم قبل كل شئ.

فماذا حدث بعد إنقضاء هذه السنين العشرة منذ خروج الثلاثي المرعب وإلي الآن ، كلنا يعرف تماما أن دي روجبا يلعب في نادي تشيلسي الإنجليزي وإيتو كان في النادي الملكي ريال مدريد قبل إنتقاله إلي الإنتر في الدوري الإيطالي وقد قضي كل منهم نفس الفترة التي قضاها ميدو بحيث تنقل بين ثلاثة دول وأربعة نوادي أثنان منهم علي الأقل يقعون ضمن أفضل عشرة نوادي علي مستوي العالم.

أما صديقنا ميدو فقد تنقل بين حوالي سبعة دول وعشرة أندية. أي أن معدل بقاء ميدو في نفس النادي (محل العمل) كان في حدود العام بينما كان معدل زملاء الدرب يزيد عن الثلاث سنوات. ولكن المهم أن ميدو يلعب بالخارج وأصبح له سعر ومعظم النوادي الإنجليزية التي تصارع الهبوط تطلب خدماته حتي يستطيع أن يبقيها في دوري الأضواء.

لقد أصبح ميدو هو النموذج الذي يريده شبابنا ، يريدون السفر وإنتهاز الفرصة والعيش بحرية بحيث يتمكنون من الإنتقال من هذه الشجرة إلي تلك بدون أي رقابة أو إشتراطات . يريدون أن يجمعوا المال بأي طريقة ولامانع من العمل هنا لمدة عدة أشهر حتي تأتي فرصة أفضل توفر دخل أعلي فننتقل من هنا إلي هناك طالما الدخل سيزيد فلاشئ يهم وأن الخبرة يكتسبها الإنسان تقاس بالوقت وليس بالإنجازات.

نعم لقد أصبحنا في زمن ميدو ؟ وأنا لاألوم أحد إلا أنفسنا لإننا إنقسمنا علي أنفسنا وأصبح هناك الجمع الكثير الذي يهلل للإنجازات الزائفة ويشيد بهدف تم إحرازه أو بخطوة تم تحقيقها حتي وإن كانت في الطريق الخطأ. وليس أدل علي ذلك إلا ماحدث عندما قام حارس مرمي مصر الأول عصام الحضري بترك شركته التي هو متعاقد معها (النادي الأهلي) والذهاب للعمل بالخارج بدون إنذار فسخ تعاقد أو مهلة رحيل. وقد إنقسم المجتمع المصري في وقتها علي نفسه بين مؤيد لحق الرجل في أن يحقق حلم حياته بالسفر والعمل بالخارج وبين معترض علي هذا الأسلوب الذي لاينم عن أي ولاء أو إحترام للكيان الذي عمل علي صنع إسم الحضري ووضعه في مصاف أعظم حراس مرمي في القارة السمراء.

ولكنني هنا لاأنظر لموضوع بشكل رياضي بقدر ماأراه بشكل وظيفي، فالموظف في الزمن الأصيل يلتزم بعمله الذي وفره له صاحب العمل وصبر عليه في سنوات تعلمه حتي أصبح متمرسا في عمله ويتهافت عليه الشركات المنافسه نظرا لأنه إستطاع أن يثبت نفسه في عمله الحالي والذي – مرة أخري – وفره له صاحب العمل وصبر عليه وهو لايزال يتعلم ويخطأ ويفسد بعض الأمور ولكن صاحب العمل يتحمل هذا وهو يصدق أن هذا الموظف سيأتي عليه يوم يتمرس في عمله ويستطيع أن يجني من وراءه العائد علي الإستثمارات التي ضخها فيه.

إنني أصدق بل وأعتقد يقينا أن للنجاح مسار ثابت يمر به معظم الناجحين ،هذا المسار يبدأ من التوفيق في وضع الخطط والإستعانة بذوي الخبرة ثم الإلتزام بهذه الخطة مع عدم الإنسياق وراء العوائد المغرية البراقة التي تستلزم منا التخلي عن قيمنا وأخلاقياتنا وخططنا لإن للنجاح ثمن ولازلت أيضا أعتقد أن أكبر ثمن للنجاح هو قدرتنا علي الوقوف أمام رغباتنا وشهواتناومتطلباتنا وأن نستطيع أن نقول لأنفسنا في وقت ضعفها ...... لأ .. أنا لن أنزلق.